يتحدّث نقاد الأدب عن مفهوم"الانزياح" في الشعر كخاصيّة تميّز اللغة الشعرية عن غيرها من استخدامات اللغة. الانزياح هو الانحراف في اللغة عن مقصدها الأصلي، وتحوير المعنى المتعارف عليه، بهدف صدم القارئ جماليا، والابتعاد عن السائد والمتكرر في الاستعمال. الانزياح هو المجاز، هو أن تقول الشيء عبر ألا تقوله مباشرة. الانزياح يبني على الأصل، لكنه يقوده لفضاءات جديدة مختلفة.
الانزياح هو المجاز، هو أن تقول الشيء عبر ألا تقوله مباشرة. الانزياح يبني على الأصل، لكنه يقوده لفضاءات جديدة مختلفة
تذكرت مفهوم الانزياح هذا وأنا أتأمل الطبق المعروف في بلادنا باسم "صينية الكفتة بالطحينية". العلاقة بين الكفتة بمعناها اللغوي وشكلها المتعارف عليه في بعض البلاد العربية كمصر، وبين صينية الكفتة بالطحينية التي نعدّها في بلاد الشام، هي علاقة انزياحية تمامًا.
اقرأ/ي أيضًا: عالمان يتجاوران تحت شمس واحدة
ثمة معنيان مباشران للكفتة: المعنى اللغوي، وهو الجمع والضم كما جاء في لسان العرب، والمعنى الاصطلاحي، وهو اللحم المفروم الذي يضاف إليه البصل والبهارات والبقدونس ثم يعمل على هيئة أصابع أو أقراص ويشوى على النار. الكفتة إذن، بمعناها الأصلي والاصطلاحي، تستوجب الضم، والاستدارة، واللف.
الانزياح الكبير الذي حدث مع صينية الكفتة هو تحويل الكفتة من شيء مضموم على هيئة أقراص إلى شيء ممدود في الصينية. بقيت المكونات كما هي، لكن اللحم لم يعد يُفرّق عن بعضه. تخيل صانعو صينية الكفتة شكلًا آخر للحم المفروم هذا، شكلًا أكثر جمعية وتشاركية من الفردية التي تسيطر على أقراص الكفتة (أو الكباب، كما نسميها في بلادنا). الصينية تستلزم جماعة من الآكلين، خلافًا لأقراص الكفتة التي يمكن لفرد واحد تناول ما يشاء منها. صينية الكفتة احتيال العائلة على قرص الكفتة الذي قد يهز ميزانيتها. هي انزياح اقتصادي تمامًا: كيلو الكباب قد لا يكفي ثلاثة أشخاص نهمين، لأن لحم الكباب قد يؤكل وحده تلذذًا واستمتاعًا، أما صينية الكفتة فهي وجبة عائلية تتطلب استخدام الخبز أساسًا، والرز عند البعض، وبالتالي فهي أكثر توفيرًا من الناحية الاقتصادية.
كان هذا هو الانزياح الأول في معنى الكفتة، لكن ما حدث بعد ذلك نقل المسألة إلى طبقة أخرى من المعاني. أقراص الكفتة/ الكباب تشبه الأقلام في شكلها، لكن الكفتة بالصينية كتاب، وهي، ككل كتاب، تحتاج إلى أن تمتلئ بسرد من نوع لا يحتمله المعنى اللغوي للكفتة. تحولت الصينية إلى عمل تجريبي، وأصبح السؤال: ماذا نضع فوق اللحمة الممدودة هذه؟ الارتباط بين اللحم والبندورة، الشائع في أطباق عدة، جعل من شرائح البندورة خيارا مناسبا لتزيين اللحم وإضفاء شيء من الحموضة عليه، لكن المسألة ظلّت مسألة تزيين فقط. بقيت الكفتة كفتة، تشبه الأقراص في طعمها إلى حد ما. ماذا استفدنا إذًا؟ الانزياح وقف عند حد الشكل، ولم يتجاوزه إلى المضمون.
ثم جاءت الطحينية، وحدث انفجار مجازيّ في نصّ الكفتة.
لا أعرف كيف خطر ببال أول من حضّر صينية الكفتة بالطحينية أن هذا السائل المرعب يصلح أن يخلط باللحم بهذا الشكل. المسألة بالنسبة لي أشبه برسم لوحة سريالية تجريبية، وذاك الطباخ الأول هو بيكاسو المطبخ الشاميّ. اللحم الممدود في الصينية لوحة مصمتة، والطحينية ألوان عبثية فوضوية لاعقلانية تجعل من لوحة اللحم تلك نصًا مفتوحًا على تأويلات متعددة. تحولت الكفتة من شيء إلى شيء، بضربة طحينية واحدة، وانهالت علينا جماليات التحول.
اللحم كطعام يشترك فيه البشر والحيوانات. اللحم كفنّ لنا وحدنا، وصينية الكفتة بالطحينية أحد أكبر الأدلة على ذلك
أولى جماليات التحول هذه تكمن في الطحينية نفسها. سأتحدث عن نفسي كي أبتعد عن التعميم. أنا لا أتعامل مع صينية الكفتة بالطحينية بوصفها كفتة. لا أتعامل معها بوصفها لحمة أصلًا. هي طحينية وشيء آخر، شيء مدهش طبعًا، لكنه يأتي بعد الطحينية. الطحينية نقلت الكفتة من مجرد كونها لحمًا إلى مزيج من معان لا يمكن تخيلها في نصّ آخر. الطحينية هذه هي أعظم ما حدث للكفتة في تاريخها، هي تحديدًا الفرق بين اللحم، كطعام، واللحم كفنّ. اللحم كطعام يشترك فيه البشر والحيوانات. اللحم كفنّ لنا وحدنا، وصينية الكفتة بالطحينية أحد أكبر الأدلة على ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: أغنية للخوف
حين نأكل هذا الطبق العظيم نواصل ملاحقة الطحينية حتى بعد نفاد اللحم. بعضنا يواصل تغميس الطحينية بالخبز، وبعضنا الآخر يحضر ملعقة ويبدأ بشرب الطحينية كأنها دواء للروح. الطحينية هنا ليست زينة للكفتة، كالبندورة. هي أساس هذه الصينية وفحواها: المجاز أصبح أصل المعنى. صينية الكفتة بالطحينية هي، في حقيقة الأمر، صينية الطحينية بالكفتة.
ثمة شيء آخر هنا. الطحينية حالة من السيولة التي تحول اللحم الصلب إلى جسد راقص. وضع لحم الكفتة في صينية لم يؤثر في تماسكها. بقي اللحم شيئًا غليظًا، قاسيًا، قويًا. لكن الطحينية كسرت غلاظة اللحم وتلاعبت به. طباخو هذا الطبق يؤكدون على ضرورة أن تبقى الطحينية مليئة في الصينية، وألا تتبخر في الفرن، ولا "تنشف" كما نقول في العامية. يجب أن تغمر الطحينية اللحم تمامًا، بحيث تجرفه معها حين تتحرك الصينية. يفقد اللحم مركزيته التي نراه عليها حين يكون أقراص كباب، يفقد قضيبيته الملحوظة، ويصبح شيئًا مهلهلًا، مخلخلًا، ملائمًا تمامًا لفكرة السيولة التي تحدث عنها عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان في سلسلة كتبه. السيولة هي اللايقين، التحول، غياب المركز، النص الثانوي، الكفتة التي لم تعد كفتة، الطحينية التي أصبحت كل شيء.
وإذا كنت قد ظلمت اللحم قليلًا فيما مضى فإن طريقة تشكيله في الصينية وعلاقة الطحينية بذلك تعيد له جزءًا من الأهمية. في الصينية لا يوضع اللحم ممدودًا فقط، بل يتم رسمه باليد على شكل دوائر صغيرة، أو مستطيلات متداخلة، بحيث يرتفع اللحم قليلًا في الصينية ويصبح أشبه بتضاريس. هذا التشكيل تحديدا لأجل عيون الطحينية: يجب على الطحينية أن تمتزج باللحم، من كل أطرافه، أن تتخلله، أن تحيط به من كل جانب. الطحينية تصبح كالمطر الذي ينحدر في وديان من اللحم، لكنه لا يتجمع في القاع، بل يحيط باللحم تمامًا، دون أن يبقى جزء لحمي لا تصله قطرة من الطحينية. تلاحق الطحينية اللحم، كأنها تعرف قيمته، ونبدأ، ونحن نأكل، نستأذنها في أن نزيحها قليلا كي نكشف عما تخبئه تحتها.
هذا المزيج من اللحم والطحينية اختصار زمني ومكاني، دون إخلال بالقيمة. هو اختصار للوقت، ولمكونات المائدة، والمساحة التي تشغلها الأطباق عليها، لأن الصينية تجمع ما بين المقبلات (الطحينية) والطبق الرئيسي (لحم الكفتة) في وجبة واحدة. قارن مع المشاوي مثلًا، لتكتشف الخسارة التي تلحقنا حين ندرك أننا شبعنا من المقبلات دون أن تكون المشاوي قد وصلت بعد. مع صينية الكفتة بالطحينية، نحن أمام المقدمة والخاتمة معًا، مطلع القصيدة وقفلها، الطبق الذي يقول كل شيء دفعة واحدة. لا تحتاج الصينية إلى مقبلات أخرى. لا تحتاج تمهيدًا.
تحدث جلال الدين الرومي في إحدى قصائده عن أنين الناي، وقدم له تأويلًا طريفًا: الأسى الذي يصدر من الناي سببه اشتياق الناي إلى شجرة القصب التي قطع منها
ولأنّ الحياة لا تمنحنا كل شيء، فقد خسر مطبخنا بعضًا من لذة أقراص الكباب حين اكتشفنا إمكانية تحويل الكفتة إلى صينية بالطحينية. كنت أتساءل دومًا عن السبب الذي يجعل الكباب العراقي أو المصري (الذي يسميه المصريون كفتة) أشهى من كبابنا. ثمة شيء خاص في كباب هذين البلدين، ثمة استدارة معينة نفتقدها في كبابنا، ومزيج من خلطة بهارات يبدو أننا لا نتقنها. لكن التأمل في صينية الكفتة بالطحينية يمنحني جوابًا آخر. يبدو أننا في الحقيقة، ومنذ أن اكتشفنا الكفتة بالطحينية، لم نعد نولي أقراص الكباب وحدها ما يوليه العراقيون والمصريون لكبابهم من اهتمام. الكفتة بالنسبة لنا أصبحت صينية الطحينية تلك، ولذلك السبب ربما نجد أننا، حين نشوي اللحم على منقل الحطب، نهتم بلحم "الشقف" أكثر من الكباب.
اقرأ/ي أيضًا: موت المثقف وتسيّد التقني
الكفتة بالطحينية هي الفرع الذي كاد يمحو الأصل في مطبخنا. تحدث جلال الدين الرومي في إحدى قصائده عن أنين الناي، وقدم له تأويلًا طريفًا: الأسى الذي يصدر من الناي سببه اشتياق الناي إلى شجرة القصب التي قطع منها. الكفتة بالطحينية تقدم حالة شبيهة، وإن كانت معكوسة. لحم الكفتة هذه، وقد ذاق لذة الطحينية، بات لا معنى له خارجها. كبابنا مثير للشفقة، يخسر بسهولة أمام كباب المطابخ العربية الأخرى. وحدها صينية الطحينية من تنقذ كفتتنا من الوقوع في العاديّ الممل. إنها جماليات التحول.
اقرأ/ي أيضًا: