يفسح لي واتساب المجال كي أردّ على الرسائل الموجّهة إليّ، إما عن طريق علامات، أو باستعمال خطاب مكتوب، أو عن طريق رسالة صوتية. أرتاح كثيرًا للرد باستعمال العلامات: علامة التآزر أو الإعجاب والرضا، أو التأييد والموافقة، بل حتى الاستغراب أو الاندهاش. ميزة هذا التخاطب أنه لا يحتاج إلى روِيّة، وأنه متيسّر في جميع الأحوال، إلا أن فضيلته تكمن أساسًا في كونه لا يحمّل الرسالة أكثر مما تحتمل. فهو يتجنّب اشتراك الألفاظ، وفائض المعنى الذي قد تتضمنه الكتابة. لكن عيبه الأساس أنه لا يكفي للتبليغ عن كل ما نريد نقله. لذا فإن هذه المحدودية غالبًا ما تدفع نحو نهج خطاب مكتوب.
أول عائق يواجهه هذا النهج أن الكتابة عن طريق الهاتف لا بد وأن تعرّض صاحبها لبعض الهفوات اللغوية التي قد تعود إلى محدودية الجهاز، أو إلى غفلة من جانبه هو. إلا أنّ الأهم من ذلك، هو أنه يقبل بهذه الوسيلة، أن تحمل عباراته أكثر من معنى، فتفسح لمخاطبه مجال التأويل. وعلى رغم ذلك، فإن هذه الطريقة تتيح الفرصة لكي ينقّح المرسل رسالته، فيحذف ما يراه غير مستوف بالمعنى، أو ما يزيد من دلالته. إنها، ككل كتابة، طريقة قابلة للمحو والاستدراك والتنقيح، وهي تسمح، في جميع الأحوال، بالتحكّم في مضمون الخطاب وشدته وحدة لهجته، بل وتعقيده وبساطته، وحصر معانيه، والتمكن من ضبطها إلى حدّ معين.
الكلام لا يمكن أن يتراجع القهقرى. صحيح أن في إمكاننا أن نكرّر القول ذاته ونلوك العبارة نفسها. إلا أن ذلك يضيف إلى الكلام معنى جديدًا ويشحنه بدلالات أخرى
قد لا يرحم الوقت في غالب الأحيان، فيكون المرء مضطرًا إلى الردّ على مخاطبه بأن يهاتفه بدوره و"يكلّمه" مباشرة. هاهنا يقتحم باب اللاتحديد، فيستسلم للعبة الخطاب الشفوي الذي يعجز عن استدراك ما صدر عنه، ومحو ما قد يتضح أنه لم يكن مناسبا. ذلك أن الكلام لا يمكن أن يتراجع القهقرى. صحيح أن في إمكاننا أن نكرّر القول ذاته ونلوك العبارة نفسها. إلا أن ذلك يضيف إلى الكلام معنى جديدًا ويشحنه بدلالات أخرى. بل إن الحذف ذاته يغدو هنا إضافة وزيادة كما يرى بارت: "فلو أنا أردت محو ما قلت لا يمكنني أن أقوم بذلك ما لم أظهر أداة المحو ذاتها (كأن أقول: "بالأحرى"، "لقد أسأت التعبير"). المفارقة إذًا أن الكلام، الذي هو عابر سريع الزوال، هو الذي لا يقبل المحو والزوال وليست الكتابة. الكتابة ميدان المحو والخدش. والقلم رفيق الممحاة. لكن أمام الكلام ليس في إمكاننا إلا أن نضيف كلامًا آخر. وحركة تصحيح الكلام وتقويمه ليست إلا نسيجا ما ينفك يتضاعف وسلسلة من التنقيحات والإضافات سرعان ما تغدو هي الجانب اللاشعوري لخطاباتنا. لذا، يلاحظ بارث أنه ليس من قبيل الصدفة أن يرتبط التحليل النفسي بالكلام وليس بالكتابة. فما يهمّ المحلل هو عثرات القول وما يضاف إليه بعملية الحذف ذاتها.
لعل هذا ما يقصده جيل دولوز عندما يقول "الكلام وسخ، الكتابة نظيفة"، مشيرًا إلى خاصية أخرى للكلام، وكونه لا بد و"أن يتلبس لبوس الإغواء" والافتتان. لا بد للكلام من أن يخضع لمسرحة وإخراج موسيقي، فيتخذ نغمة بعينها، فيتحكم في لحظات الصمت، وارتفاع حدة الكلام أو خفضها، وتطعيم كل ذلك بالحسرات والتأوهات فيبتعد عن "طهارة الكتابة" وصفائها.