ليس من الغريب اليوم أن يكون حديث المقاهي في برلين عربياً، أو أن تسمع أطفالاً يخلطون لهجاتهم السورية أو العراقية بكلمات ألمانية ثقيلة، كثقل حمل الاندماج المطلوب سريعاً من القادمين الجدد إلى أوروبا.
دوامة الاندماج أضاعت بالتأكيد سنوات من عمر الشباب بين لغة لم تكتمل، وأوراق تائهة بين مكاتب حكومية لا تقبل الرشوة والمحسوبيات، مع ترحيب وتفهّم من البعض، وبُغض يميني متجهّم من البعض الآخر.
يشهد التاريخ دائماً بأن الحروب كانت مناسبة للالتقاء بين الحضارات المختلفة، وتبادلها الأفكار والعلوم والنظريات الفلسفية والمعرفية فيما بينها
من الصعب أن يخلو حديث المقاهي في أوروبا من كل ذلك، وستجد بين رشفات الشاي والشيشة مشاهد اللقاء الجديد بين الشرق والغرب، في دورة جديدة من دورات الزمن، وكأن الأرواح التي شهدت ثلاثة آلاف عام من السلم والحرب تُبعث من جديد!
لقاء ثقيل
شرق منهك هارب من الموت وغرب متعب من شيخوخته، شباب رأى في البحر وما وراءه أملاً بحياة خالية من رائحة الموت والبارود، وغرب يقترب كل ما فيه من سن التقاعد.
ربما كان اللقاء هذه المرة مختلفاً، أو هو كذلك في كل مرة، لكنّ كاتب التاريخ لم يخبرنا كيف كانت تلك اللقاءات بعيداً عن المعارك والهزائم والانتصارات وعدد الموتى، من الصعب أن تجد من أولى اهتماماً حقيقاً بتدوين جدال المقاهي وجمعات السمر، بدلاً من الكلام المنمق في بلاط الحكّام وأمراء حربهم.
اقرأ/ي أيضًا: طلبكم مرفوض".. هل انتهى ربيع اللاجئين في أوروبا؟
في أكبر هجرة جماعية عرفتها أوروبا، كان لقاء الغرب والشرق هذه المرة مفعماً بالأحكام المسبقة والصور النمطية، يغذي كل ذلك أرث تاريخي كبير زاخر بالفضول والرغبة بمعرفة الآخر بقدر ما كان فيه من حروب ودم ونزاع.
ورغم قساوتها يشهد التاريخ دائماً بأن الحروب كانت بوجه آخر مناسبة للالتقاء بين الحضارات المختلفة، وتبادلها الأفكار والعلوم والنظريات الفلسفية والمعرفية فيما بينها.
ورغم هدوء البشرية النسبي بعد الحربين العالميتين، كان المحرك الأساسي لهجرة الشباب العرب والسوريين على وجه الخصوص من أرضهم الحرب.. ولا شيء غيرها.
الغرب المتعدد!
قبل الصعود للقارب المطاطي الهائم في البحر المتوسط يلقي كل شاب ما يحمله من متاع، لكنه إن نجا سيتمكن من حمل كل ما قيل له عن اختلاف "الغرب"، كل ما ألقي عليه في محاضرات الجامعة عن تطورهم وتخلفنا، وما سمعه على منبر الجمعة عن الغرب "الكافر"، وذلك النقاش المحتدم بين والديه عن تفلت فتيات وشبان "أوروبا" وانعدام الأخلاق والانحلال من كل القيم.
استجماع الهوية والارتباط بالأرض التي خرجنا منها، ونقل ذلك لأجيال قادمة سيكون بداية لحركة بناء جديدة بمعارف وخبرات أوسع، بعد عقود من العزلة الحضارية.
صدمة بالتأكيد أصابت الجميع على الضفة الأخرى من المتوسط، فأوروبا التي نراها تاريخياً ككتلة واحدة نطلق عليها سهام الأحكام ليست بلداً واحداً بالفعل، فجدية الألمان تختلف عن برودة السويديين، وعنصرية شرق أوروبا مختلفة عن ليبرالية غربها.
اقرأ/ي أيضًا: من اليرموك إلى أوروبا.. اللجوء متواصل
بدأ الجميع منذ الوصول بمحاولة فهم الاختلافات لمعرفة أي البلاد أفضل للعيش، تمكن البعض من إدراك التمايز بين تلك الدول، فبالرغم من قيمها الرأسمالية التي تحكم السياسة والاقتصاد والقيم الليبرالية التي ترسم ملامح المجتمع، لا تزال طباع سكانها مختلفة باختلاف الوجهات شرقاً، غرباً، شمالاً وجنوباً.
جسر باتجاهين
لا يمكن إنكار تأثير سياسات دول غرب أوروبا تحديداً على واقع البلاد العربية السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومن الصعب غفران التاريخ الاستعماري لمعظم تلك الدول خاصةً في دول شرق المتوسط وشمال إفريقيا، لكن فهم واقع التطور الذي حظيت به تلك الدول ومعايشته عن قرب من قبل شباب مفعم بالإمكانيات والرغبة بتحقيق الذات، يمكن أن يبعث فهم جديد لكيفية القيام من النكبة العربية الحالية.
اللقاء اليوم بين الشرق والغرب يتسم بالهدوء إلى حدٍّ ما، مع ثورة تواصل وقدرة هائلة على نقل الأفكار وتبادلها، وتجسيد ثقافة المجتمعات بميزاتها وعيوبها بشكل مباشر دون وسيط، عبر أدوات متاحة بيد الجميع.
صدمة أصابت الجميع على الضفة الأخرى من المتوسط، فأوروبا التي نراها تاريخياً ككتلة واحدة ونطلق عليها سهام الأحكام ليست بلداً واحداً بالفعل
معرفة لغات تلك المجتمعات والوصول لمصادرها ونتاجها المعرفي، بالإضافة لتراكم النجاحات الفردية والتفوق الأكاديمي والعملي، قادر أن يبعث الأمل في نهضة عربية جديدة يقودها جيل قادم بالتأكيد، لكن شريطة أن نبني من تلك المعارف جسراً فوق البحر الذي عبرناه.
استجماع الهوية والارتباط بالأرض التي خرجنا منها، ونقل ذلك لأجيال قادمة سيكون بداية لحركة بناء جديدة بمعارف وخبرات أوسع، بعد عقود من العزلة الحضارية.
بإمكاننا اليوم أن نكوّن بداية فهم حقيقي لواقع المجتمعات في العالم، وتباين قيمها الاجتماعية وأنظمتها السياسية والاقتصادية، لنعبر بكل ذلك إلى الضفة الأخرى، لأوطان بور تنتظر من يزرعها لتزهر يوماً ما من جديد.
اقرأ/ي أيضًا:
مصير مجهول يواجه اللاجئين السوريين في الدنمارك بعد قرار بإلغاء تصاريح إقامتهم
أوروبا واليمين.. عصر الظّلام المُقبل