كان الأجداد يروون لنا حكاية جميلة عن المئذنة في شهر رمضان المبارك، ففي القرى قديمًا قبل أذان المغرب بدقائق معدودة كان أولاد القرية يجتمعون حول المئذنة في انتظار المؤذن لإعلان اللحظة التي سيفرجون بها عن حلوياتهم المنتظِرة منذ الصباح في حقائبهم، وبتململٍ مستفز ينظر المؤذن إلى الساعة مرة أو مرتين قبل أن تنفرج شفتاه أخيرًا عن الكلمات التي انتظرها الصبية بفارغ الصبر منذ الفجر "الله أكبر.. الله أكبر" ثم يودعون المئذنة ويعودون حيث منازلهم على أمل لقاء قريب في اليوم التالي.
نعم لقد كان للمئذنة صيت ووزن، كانت منبرًا إعلاميًا مميزًا ليس للأذان فقط وإنما للإعلان عن أي طارئ، وفاة، فرمان سياسي، تحذير من أمر ما، وقد كان المؤذن هو المخول الوحيد للصعود إلى أعلى المئذنة، إلى منبره الإعلامي المتفرد.
في فلسطين، المسجد الأقصى تحديدًا تجلت روعة وأصالة العمارة الأموية بالنقش على الألواح الخشبية المصنوعة من خشب الصنوبر.
المآذن والقباب في العصور الإسلامية
لم تكن المآذن موجودة في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام ولا الخلفاء الراشدين الأربعة، وإنما كان المؤذن في ذلك الزمان يصعد على شيء مرتفع قليلًا ليجهر بصوته في الأذان حتى يتمكن أهل المدينة من سماعه.
ومع مرور الزمن ودخول الكثيرين في الإسلام وتوسع رقعة البلاد الإسلامية في العالم كان لا بد من اتخاذ مظهر معماري معين يضاف إلى بناء المسجد ليكون خاصًا للأذان لضمان وصول الصوت إلى أكبر عدد ممكن من الناس، لاحقًا عدت المآذن إحدى المظاهر الإسلامية المعمارية الهامة المعتنى بها جيدًا حتى شكلت مبحثًا خاصًا في الفن المعماري الإسلامي.
أما القباب فهي شكل مهم من أشكال العمارة التي كانت سائدة منذ العصور القديمة على تنوع أشكالها، وكانت تستخدم لتغطية القبور أو للاستظلال بها من الحر إلى غير ذلك من الأسباب، وفي العمارة الإسلامية استخدمت القباب بكثرة في المساجد لغايات تعليمية بالدرجة الأولى حيث كانت مرتعًا لتدارس القرآن والسيرة النبوية والسنة الشريفة، وقد تركت العمارة الإسلامية أثرًا كبيرًا في البلاد التي أورثتها مبانيها بقبابها ومآذنها وقصورها وغيرها من التحف المعمارية الشاهدة على حضارة عريقة ومميزة.
وقد بدأ تشييد المآذن والقباب منذ عصر الدولة الأموية، أي ما بين 40-132 عام للهجرة، وفيما يلي سرد لتطور معمار المآذن والقباب وأهميتها في العمارة الإسلامية عبر العصور الإسلامية المتلاحقة.
-
العصر الأموي
يعد المسجد الأموي أحد أهم المعالم المعمارية الإسلامية الأموية العريقة في دمشق، قريبًا من سوق الحميدية الذي يمثل هناك خطًا يشبه خط السفر عبر الزمن، حيث تحملك قدماك من ضوضاء المدينة وازدحامها في بدايته وتسير بك بخطى واثقة نحو قرون مضت حتى نهايته نحو دمشق العتيقة، هناك حيث يرتاح المسجد الأموي لتتلقفك مئذنته ذات الطراز المميز كمنارة ترشدك نحو إرث إسلامي عابق بالأصالة. "مئذنة العروس" وقد لقبت بهذا الاسم نظرًا للتذهيب المضاف لها في أسفلها حيث كانت تبدو في فترة الغروب لامعة، كالعروس. وتقع المئذنة في منتصف الرواق الشمالي للجامع الأموي وتتربع على برج مربع الشكل يزيد ارتفاعه على 30 مترًا، وتوجد على جهاتها الـ4 فتحات قوسية؛ فتحتان لكل جهة، ضمن قوس أكبر يضمها وصولًا إلى الشرفة التي ترتكز على ركائز من المقرنصات (حوامل القباب) عددها 14 ركيزة. ومن مميزات القباب والمآذن والقباب الأموية:
- تتميز القباب والمآذن في العصر الأموي بزخرفاتها المميزة المستقاة من العصور السابقة ومنها البيزنطية والتي تتكون في أغلبها من رسومات للنباتات والحيوانات على أن الأمويون حذفوا منها وأضافوا لها بما يتماشى مع الثقافة الإسلامية، تبع ذلك تأثرهم بالعمارة الساسانية الإيرانية.
- اشتهرت العمارة الأموية بالزخارف التي اتخذها الأمويون من الأمم السابقة هي زخارفهم النباتية مثل ورقة العنب الثلاثية والخماسية، وعناقيد العنب وأكواز الصنوبر، والمراوح النخيلية وأزهار اللوتس، وقد ازدهرت العناصر الزخرفية في عهدهم وتميزت بالدقة في رسم الزخارف النباتية.
- استخدم الأمويون الخط في زخرفة مبانيهم بما فيها المآذن والقباب، تجلى ذلك في الآيات القرآنية والعبارات التي تدعو للهداية، وأصبح هذا النمط سائدًا وشائعًا في التقاليد المعمارية اللاحقة للعالم الإسلامي.
في فلسطين، المسجد الأقصى تحديدًا تجلت روعة وأصالة العمارة الأموية بالنقش على الألواح الخشبية المصنوعة من خشب الصنوبر والتي ما زالت حتى الآن تعرض في متحف الحرم الشريف قرب المسجد الأقصى. ومن أشهر المآذن والقباب الأموية:
- قبة السلسلة "المسجد الأقصى"
- قبة الصخرة المشرفة "المسجد الأقصى"
- قبة قصر عمرة
- قبة حمام الصرح
- مئذنة العروس "المسجد الأموي"
- مئذنة عيسى أو المئذنة البيضاء "المسجد الأموي"
- مئذنة قايتباي أو مئذنة المسكية "المسجد الأموي"
-
العصر العباسي
شهدت المآذن والقباب في العصر العباسي نمطًا معماريًا مختلفًا عما سبقه في العصر الأموي، فقد اتخذت المآذن شكلًا حلزونيًا رفيعًا أو مربعًا سميكًا في حين ارتكزت المئذنة على أساس مربع الشكل متصل بالمسجد ثم يرتفع عنه تدريجيًا ليتخذ شكلًا دائريًا أو مربعًا أو سداسيًأ أو ثمانيًا.
وقد تأثرت العمارة العباسية بشكل خاص بالعمارة الساسانية، والتي بدورها تضمنت عناصر جمالية موجودة منذ بلاد ما بين النهرين القديمة، إلا أن الكثير من هذه الآثار زالت بفعل قدم العهد بها، بالإضافة إلى العوامل البيئية الطبيعية الضارة بحجر الجص المصنوعة منه. أما عن أشهر المآذن والقباب في العصر العباسي فمنها ما يأتي:
- مئذنة مسجد سامراء
- القبة المثمنة فوق ضريح الخليفة المنتصر
-
العصر الأندلسي
وفي العصر الأندلسي أخذت المآذن والقباب أيضًا نمطًا مختلفًا عن العباسية والأموية، وقد ساهم في هذا الاندماج الحضاري والثقافي بين مختلف الجنسيات، الذي كان واقعًا حيًا يعيشه الناس في تلك البلاد، بالإضافة إلى ثقافة سكان البلاد الأصليين "الإسبان" والتي لم تمحُها الحضارة الإسلامية. بل هضمتها ودمجتها لتخرج بمكون حضاري جديد فيه من طبيعة البلاد وطباع أهلها الكثير.
اتخذت المآذن في الأندلس شكلًا رباعيًا في أغلبها على خلاف ما كان حاصلًا في بلاد المشرق العربي، وكانت تسمى بالصوامع لتشابه عمارتها مع عمارة صوامع القمح، ويعد مسجد المنستير بمئذنته الرباعية في الأندلس أحد أهم الشواهد وأقلها على هذا الإرث المعماري الإسلامي المميز، كما تعد قبة مسجد قرطبة "المسجد الكبير" من أروع القباب التي بنيت في عهد المسلمين.
اختلفت المآذن في بنيتها المعمارية في العصر العثماني حيث كانت رفيعة على غير المتعارف عليه سابقًا في مآذن العمارة الإسلامية
-
العصور الفاطمية والأيوبية والمملوكية
أبدع المسلمون في هذه العصور في بناء المآذن والقباب، وتميزت بزخرفاتها الفريدة والمستقاة من الشريعة الإسلامية بالإضافة إلى تزيينها بالآيات القرآنية وعبارات التوحيد. وحسب أقوال المؤرخين فإن أول قبة ظهرت في العصر الفاطمي كانت قبة الأزهر الشريف في القاهرة، وقد تحولت القبة من التكوير إلى التضليع في هذا العصر، كما هو الحال في قبة السيدة رقية المشابهة لقبة محراب القيروان، وتعد القباب الفاطمية في مصر والشام من أروع القباب، حيث كانت مقرنصاتها من حطة واحدة ثم تطورت إلى حطتين، والحطة هي التحويطة السفلية للقبة التي تستند عليها.
وفي العصر الأيوبي ازداد استخدام الزخارف الجصية في قواعد القباب، حيث امتازت القباب في مصر بزخرفتها وارتفاعها وتناسقها، وتعد القبة الخشبية المغلفة بالرصاص لضريح الإمام الشافعي، والتي أمر ببنائها العادل سيف الدين أيوب شقيق صلاح الدين الأيوبي عام 1211 واحدة من أروع الأمثلة على الإرث الأيوبي في مصر.
أما في العصر المملوكي فقد استخدمت أنواع كثيرة من القباب، منها نصف الكروي والمضلعة والبيضاوية، كما ظهرت قباب كبيرة ذات مناور (قبة الشيخ عبد الله المنوفي) التي أنشئت في نهاية القرن الـ13 الميلادي بمدينة منوف.
-
العصر العثماني
اختلفت المآذن في بنيتها المعمارية في العصر العثماني حيث كانت رفيعة على غير المتعارف عليه سابقًا في مآذن العمارة الإسلامية، وقد كانت المآذن تحتوي على شرفة واحدة أو أكثر، وغالبًا ما ترتكز على أقبية ذات مقرنصات.
وتستخدم المقرنصات بشكل منتقىً في أماكن معينة، مثل الجانب السفلي من شرفات المآذن أو فوق النوافذ والبوابات، وتستخدم كأجسام رافعة مما يسمح بتوزيع وزن القباب على الجدران التي ترتكز عليها، كما في مسجد السليمانية في إسطنبول.
هذه المآذن باختلاف تصميمها المعماري على مر العصور، وباختلاف مقامات الأذان التي يصدح بها المؤذنون من مختلف البلاد والجنسيات، تظل معلمًا إسلاميًا معماريًا ووجدانيًا يربط المسلمين بعضهم ببعض مهما تباعدت جنسياتهم ولغاتهم ومنابتهم، ويظل نداء "الله أكبر" أكبر من كل الفروقات، ونداء "حي على الصلاة حي على الفلاح" النداء الأكثر تلبية في تاريخ الأمم إذا ما دعي الناس إليه.