بتكلفة 28 مليون دولار، وعلى مساحة 40 دونمًا، افتتحت "مؤسسة التعاون" في العام الماضي "المتحف الفلسطيني" على أراضي بيرزيت، بتصميم يراعي الطابع العمراني في فلسطين، وفي موقع يبعد عن رام الله 7 كيلومترات، و25 كيلومترًا أخرى عن القدس.
المتحف، أي متحف، وثيقة تواجه العصر. إنه "كهف المدينة المعاصرة"
من المبكر نسبيًا الحديث عن أنشطة المتحف الفلسطيني وأهدافه ومكوناته. ذلك أنه ذو حديث التأسيس. وبالأكيد أيضًا إن الحديث عن المتحف الفلسطيني نفسه ليس حديثًا عن القائمين عليه، بل هو ضرورة يستدعيها الاجتهاد قياسًا إلى التكلفة والمساحة وفخامة المبنى الذي يضم المتحف، إضافة إلى الترويج الإعلامي الذي صاحب عملية البناء والافتتاح، إذ نتوقع من المتحف ألا يكون ذا وظيفة حضارية فقط، كما جاء في موقعه على شبكة الإنترنت، ووظيفته تعزيز الحوار والديمقراطية والتعليم والآفاق الثقافية والبيئة الحاضنة لها، وتعزيز الحضور الثقافي الفلسطيني عربيًا وعالميًا، فتلك وظائف فضفاضة للغاية، ويمكن لأي مشروع أن يتحدّث عنها في أدبياته، مع أن مثل هذه الوظائف والمهام تتصدّى لها الجامعات والمؤسسات الثقافية، كما جرت العادة أن تتبناها المؤسسات الهادفة إلى الحصول على تمويل أجنبي.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا استغرق بناء المتحف المصري الكبير 15 عامًا؟
وظائف المتحف، أي متحف، في مكان آخر تمامًا. إنه وثيقة تواجه العصر. إنه "كهف المدينة المعاصرة" كما يقول أحد الكتاب، أي ذاكرتها وخيالها وتاريخها وأحلامها، كله معًا في آن. بالقياس أيضًا، يمكن النظر إلى التلة الأخرى التي يقع عليها "متحف الهولوكوست" في القدس، والتمعن في الدور المهم الذي حقّقه ولعبه هذا المتحف على صعيد توطيد الرواية الإسرائيلية، كذلك الأمر بالنسبة لـ"متحف تاريخ المقاومة والترحيل" في مدينة ليون الفرنسية.
عدد كبير من القصص التي من الممكن أن يستند عليها المتحف في فلسطين في عكس روحه. قصص تنتظر التدوين والاهتمام والنبش، في المخيمات والقرى والمدن. قصص يمكنها منح فضاء المتحف الوظيفة المرجوة والروح المطلوبة. في هذه الحالة يصبح الذهاب إلى الرواية الشفوية لتدوينها والحفاظ عليها ضرورة، بدلًا من هدر الوقت في مناقشات الحرية والديمقراطية أو الحرية والجمال، وهي عناوين لا تزعج أحدًا على الإطلاق، وفي الوقت ذاته لا تعني شيئًا محددًا، إذ يمكن أن نلصقها بمتحف أو بجماعة أدبية أو حركة سياسية.
متاحف كثيرة في العالم يمكن أن يستمد المتحف الفلسطيني منها الخبرة والوظيفة. فليست الرسالة الحضارية لأي متحف عند أي شعب هي العرض وجلب الوفود فقط. المتاحف من هذا النوع لها وظيفة واحدة فقط تقديم القصة ورواية الحكاية، وإلا سنكون أمام مؤسسة أخرى تعنى بالشأن الثقافي والعمل الثقافي وبإغفال متعمد، أو غير متعمد، للجذور والتاريخ، كما فعلت معظم المؤسسات الثقافية في فلسطين، التي تأسست في تسعينات القرن الماضي، وفشلت حتى اللحظة في إحداث فارق يذكر في المجتمع الفلسطيني، على صعيد قضايا الحريات مثلًا.
المتحف عمل يتعلّق بالذاكرة، وذاكرة المكان الفلسطيني هي ذاكرة الضحية الفلسطينية
المتحف عمل يتعلّق بالذاكرة، وذاكرة المكان الفلسطيني هي ذاكرة الضحية الفلسطينية، ولعله من نافل القول أن أي عمل لا يستند إلى الضحية ويبرز صوتها يكون فارغًا من معانيه.
اقرأ/ي أيضًا: إيلان بابيه يفضح "فكرة إسرائيل"
في المحصلة، تبدو الجملة التي صاغتها الثقافة على مر عقودها الطويلة صحيحة، الشعوب تصوغ تجربتها الخاصة دائمًا. فلسطينيًا لم يصغ الفلسطيني مقولته بعد، لكنه صاغ تجربته المريرة في التهجير والشتات. يمكن للمتحف أن يذهب إلى هناك، أن يذهب إلى المخيم، وأن يقتفي آثار اللاجئين في الخروج من قراهم ومدنهم إلى دول الجوار، وأن يقوم بعملية قص أثر موازية للقرى والمدن نفسها، ما بقي منها وما أزيل. ويمكن للقائمين على المتحف الفلسطيني تتبع آثار الفنان إسماعيل شموط، على سبيل المثال، وهو راجع إلى مدينته اللد زائرًا، كما يمكن للجدران في المتحف أن تعكس صرخاته وولولاته، وهو يمشي في حيه الذي ولد فيه، في اللد، حيث كان فيه ولم يكن في اللحظة نفسها، وتلك هي أسّ قضية الفلسطيني، من حيث أن فقد الزمان خلال عملية تجريده من المكان.
اقرأ/ي أيضًا: