لست أدري لماذا يطاردني سؤال العلاقة بين المثقف والسلطة في الجزائر، في معظم الحوارات الصحفية التي تجرى معي. رغم أنني لا أمثل لا الحقل الثقافي ولا الحقل السّياسي، حتى بات من الأسئلة البغيضة التي أتفادى الإجابة عنها، لأنها تحتاج مقاربة خاصّة تراعي جملة من المعطيات المتعلقة بسياقات تشكّل مفاهيم المثقف والسياسي والثقافة والسياسة، في فضاء تأسّست فيه المؤسسة العسكرية، جيش التحرير الوطني 1954، قبل نشوء الدولة المدنية عام 1962.
أن أكون فنّانًا معارضًا، لا يعني أن أسكن فيسبوك وتويتر، وأغرقه بمناشيرَ رافضةٍ للسياسات العامّة
إنّ مراعاة هذا المعطى المرتبط بتاريخ الدولة الجزائرية الحديثة وببنيتها العميقة، يجعلنا ندرك أن الثقافة لم تكن يومًا فعلًا مستقلًّا عن السياسة في البلاد، بما يرقى إلى صناعة وعي جديد. بل كانت دومًا فعلًا تابعًا للخطاب السياسي الحاكم وشارحًا لمواقفه ومروّجًا لمقولاته ومفرداته، وكل مشروع خرج عن هذا الإطار، إمّا وئد في صمت، وإمّا تمّ ترويضه، وإمّا اضطرّ إلى الهجرة إلى الخارج.
اقرأ/ي أيضًا: الهوية الجزائرية.. من الاحتلال إلى الإهمال
هذا الواقع القائم، جعل الأغلفة المالية المرصودة للقطاع الثقافي من طرف الحكومات المتعاقبة، وهي تكاد تساوي الميزانية العامة في بعض الدول الأفريقية، لا تذهب إلى خدمة الأفكار والتجارب والمشاريع والتيارات الثقافية الحقيقية التي تحقق رهان الاستثمار في الإنسان/ المواطن، بل تذهب في اتجاه رعاية الولاء للأجندة السياسية الحاكمة، في شكل مهرجانات وحفلات وولائم تلتهم المال العام من غير أن تخلّف وعيًا عامًا.
من هنا، يحقّ لنا أن نسأل عمّا خلّفته تظاهرات كبيرة مثل تظاهرة "سنة الجزائر في فرنسا" عام 2003، و"الجزائر عاصمة الثقافة العربية" عام 2007، و"المهرجان الثقافي الأفريقي" عام 2008، و"تلمسان عاصمة الثقافة الإسلامية" عام 2011، و"قسنطينة عاصمة الثقافة العربية" عام 2017.
في المقابل، ما جدوى معارضة توجهات الوجوه المشرفة على القطاع الثقافي، ما دامت السياسة الرسمية المنتهجة، تقوم على تسخير الثقافي للسياسي؟ ذلك أنّ معارضة الإفراز في ظل بقاء الغدّة يُنهك المعارِضَ ويستنزف وقته وأعصابه أكثر ممّا ينهك المعارَض، لأنه محمي بالسياسة والمال وما يخلقانه من ولاءات شعبية مغشوشة.
علي أن أتقنَ فنّي، بأن أصوغَه بشروط الإبداع، وآتيَ فيه بالجديد والعميق، فإن ظهر لي بعد ذلك أن أعارض السلطة والواقع المتعفنين، فسيكون أمرًا رائعًا ومفيدًا، أما أن "أبدعَ" خرابةً وأعارض الخراب، فلا أعدو أن أكون شبيهًا بطفل يخلع سروالَه تمامًا، ويضحك على أنه رأى سحّابَ أبيه مفتوحًا.
لا تستمدّ السلطة السياسية المتعفنة مبررات استمرارها، من السلاح والقوة والمال فقط، بل من وجود نخب ثقافية
أن أكون فنّانًا معارضًا، لا يعني أن أسكن فيسبوك وتويتر، وأغرقه بمناشيرَ رافضةٍ للسياسات العامّة، حتى وإن كانت جديرةً بالرفض، بل أن أتأمّلَ المرحلة، وأقرأها داخل سياقاتها كلّها، وأقدّم فكرة/ وعيًا/ بديلًا/ إشارةً/ إضاءةً، لا تنديدًا صرفًا، لأنني لستُ سياسيًا يتفاعل مع اللحظة، بل رائيًا يتعامل مع الوجود. وإلا لماذا نندهش حين يُصدر سياسي كتابًا أدبيًا، ولا نفعل حين يتسيّس الأديب؟
اقرأ/ي أيضًا: اقتل سوريًا... أسبوع الكراهية
ما معنى أن أكون معارضًا للسلطة والواقع المتعفنين، بينما أخضع في فني/ نصّي، لسلطٍ فنية تقتضي مني أن أتجاوزَها؟ ذلك أنّ المعارضة رؤية ثورية متكاملة للحياة، وليست رفضًا في سياق، وقبولًا في سياق آخر. فهل يحقّ لي أن أمدّ لساني وقلمي، على السياسي المتعفن، بينما طالبتني منظفة العمارة بمستحقاتها، فسبقتها إلى الشكوى من تأخر الراتب، في الوقت الذي صرفتُ فيه مبلغًا سمينًا على امرأةٍ رشيقةٍ في علبة الليل؟
لا تستمدّ السلطة السياسية المتعفنة مبررات استمرارها، من السلاح والقوة والمال فقط، بل من وجود نخب ثقافية وإعلامية وسياسية تعارضها، لكنها تفعل مثلها أيضًا. وإن المثقف الذي يتفاعل مع فتاة وضعت صورةً لكلبة ترضع قطًّا، ويتجاهل زميله الذي أصدر كتابًا أو نال جائزة أو طرح سؤالًا فكريًا للنقاش، هو أكبر حامٍ لاستمرار السياسي المتعفن في جعل البلاد حظيرة مفتوحة من القطط والكلاب.
اقرأ/ي أيضًا: