كيف يرى المثقفون المونديال؟ قبل ذلك كيف هي علاقتهم مع كرة القدم؟ وهل ثمة علاقة بين الكتابة والفن من جهة، والكرة من جهة أخرى؟ عن هذه الأسئلة وغيرها نستكمل ما بدأناه مع هذه الباقة الجديدة من الآراء.
أصالة لمع: الكرة متنفّس الشّعوب
أتابع كرة القدم منذ مدة بعيدة، مع المشاغل وضغوط الحياة خفت هذه المتابعة، أحاول أن أتابع دوري أبطال أوروبا بالإضافة إلى كأس العالم طبعًا. كنت أشجع البرازيل في المونديال، والآن أنقسم بينها وبين المنتخب الفرنسي بحكم أنها الدولة التي أحمل جنسيتها وأعيش فيها منذ 10 سنوات. في الأندية، أشجع ريال مدريد، وأحمل ذاك العداء التاريخي لمشجعي نادي برشلونة.
أعتقد أننا نستطيع تعريف العلاقة بين الرياضة والفنون بأنهما شكلتا عبر التاريخ متنفسًا للشعوب، ووسيلة للخروج من الهموم الاجتماعية الكثيرة ومن فوارق الدين والسياسة، إلى مدى أرحب تذوب فيه هذه الفوارق في إطار صحي لا ينتج عنه إلا الجمال. في الرياضة كما في الفنون أو في الأدب خاصة، لا وجود إلّا للإنسان وللغة مشتركة تتخطى ما يفرقنا وتضرب على ذاك الوتر الذي يربطنا جميعًا.
في الحالتين، تجري الدماء ساخنة في جسد أو في ذهن متّقد. في الحالتين، المتعة في التجربة، وفي ما ينتج عنها! الحماسة التي نشعر بها حين نتابع مباراة، ونصرخ لهدف يهزّ شباك خصمنا، تشبه إلى حد بعيد ما يشعر به شاعر وهو يلاحق قصيدة تشكل نفسها في رأسه. هذه الرّجفة في اليدين والخفقان في القلب، ليستا سوى ترجمة لانفعالنا. ونحن بحاجة إلى هذا الانفعال لنشعر بأننا أحياء. هذه هي الحماسة الصحية، بعكس تلك التي تنتج عن التعصب الديني أو الحزبي أو أي تعصب آخر تنتجه الكانتونات المجتمعية المختلفة. حتى أننا نرى أحيانًا في كأس العالم أشخاصًا يشجعون منتخبات دول أخرى، وهذا مثال على قدرة الرياضة الفريدة على مسح الفوارق تمامًا. هذا لا يعني أنه لا يوجد تعصب في الرياضة، على العكس، تقع أحيانًا خلافات حادة بين مشجعي الفرق المختلفة لأن الانتماء الرياضي أمر حقيقي أيضًا. إنما برغم هذا، لم نشهد يومًا حروبًا تحدث مثلًا بسبب الرياضة، ما يجعل الانتماء الرياضي شيء مختلف ونقي مهما تعمّق، يبدو غير قادر على إحداث الشروخ والتفرقة.
الشّعر بدوره لم يكن بعيدًا عن الرياضة تاريخيًا، حتى أنه كانت هناك فئات للموسيقى والشعر في الألعاب الأولمبية في دوراتها الأولى، وهناك قصيدة شهيرة للرياضة كتبها كوبرتان مؤسس الألعاب الأولمبية بشكلها الحديث مما يقول فيها: "أيّتها الرياضة، أنتِ الجمال/ أيّتها الرياضة، أنتِ العدل". وكان كوبرتان مهتمًا بالمجال التربوي ويعدّ من المحاربين الذين سمحوا بدخول الرياضة في المناهج المدرسية الفرنسية في حينها، فالرياضة لا تقل أهمية برأيه عن العلوم أو الأدب أو التاريخ.
شخصيًا، لا تتفاعل قصيدتي بالضرورة مع حدث كأس العالم، إنّما قد يحدث هذا أيضًا، لأن القصيدة لديّ تولد دومًا من انفعال بلا وعي مني لميكانيزمات ولادتها في كل مرة. يمكن لأي حدث أن يجر انفعالي نحو حالة تنتج عنها القصيدة. إنما حين أتابع كرة القدم فأنا لا أتابعها كشاعرة، أترك المكان الذي تشغله القصائد شاغرًا، وأتابع بكامل انفعالي نوعًا آخر من الحماسة. وفي هذا الإطار، وكلما ارتفعت أحيانًا بعض الأصوات التي تعتبر ما يحصل في إطار كأس العالم مبالغًا فيه أو مضيعة للوقت، أذكر حادثة تروى عن الشاعر محمود درويش حين في إحدى قراءاته الشعرية، استهل كلمته بالتعجب من حضور البعض أمسية شعرية، في وقت تقام مباراة بين فرنسا وإسبانيا، وأضاف: "أنا من جهتي أُفضّل متابعة المباراة حتى لو كان من سيحيي الأمسية المتنبي".
باسل الأمين: كرة القدم منجاي من الاكتئاب
لعبة كرة القدم كانت هي دائمًا الشّيء الوحيد الذي ينجّيني من الاكتئاب. عندما تعرّضت لإصابة في كاحلي، واظبت على تمرينات خفيفة في البيت وحدي، كانت تبدو تلك التمرينات بالنسبة لي وكأنّها جزء من اللّعبة. حينها لم أكن مكتئبًا، أم كنت بالأحرى مدركًا تمامًا لوجود الاكتئاب وكنت أفعل كلّ شيء لكي أقفز عن المشاعر التي تنذر صاحبها بعدم قيمته. بعدها لعبت مبارتين أو ثلاثة، شعرت بألم طفيف في كاحلي في كل مباراة، ثمّ لا شيء، سافر بعض من أصدقائي، لم يعد لدينا لاعبين بما فيه الكفاية لكي ننظّم لعبة، لكن هذه ليست ولن تكون حجّة أبدًا. غرقت في العمل، في النوم على فراش يؤلم ظهري، ثمّ بتّ أستيقظ فقط لأنّ الإستيقاظ هو سمة الوجود. لكنّي مع هذا كلّه فهمت شيئًا لم أكن أدركه من قبل، بأنّ الاكتئاب هو المحفّز الوحيد لفعل أيّ شيء، لأنّه ببساطة لا يزول أبدًا تماما كإصابة في كاحل القدم. إنّها أشياء لا يشفى منها الإنسان، إلّا أنّنا نتعلّم أن نمارس بعض الرياضات الصباحيّة التي تجبرنا على المضي قدما في النهاية.
حسن المقداد: لعبةٌ تجاورُ الشّعريّة
أتابع مباريات المنتخبات العربية ومباريات المنتخبات القوية وأشجع المنتخب الألماني منذ الطفولة.
كرة القدم بتفاصيلها تشبه معظم الفنون، إتقان التكنيك والفنيّات واللمسة الإبداعية والمهارة، من العلامات التي تميّز أي فنان وهي نفسها التي تميّز لاعبًا عن ندّهِ ومنتخبًا عن نظيره في هذه اللعبة، كما إن ارتباطها بالمشاعر المتطرفة من الحزن والفرح والحماسة والغضب تضعها في مساحةٍ قريبةٍ للشّعريّة وخلق الحالةِ الجمالية والأثر.
لم يسبق لي أن أدخلت قصائدي في الأحداث والمناسبات من حيث الموضوع، ولكن أحيانًا الحالة الشعورية بعد مباراةٍ مهمة يمكن أن تكون محفزّةً لعمليّة الكتابة، كرة القدم قد تحرّك أوتارًا نحتاجها للخلق الفنيّ وقد توحي بصورٍ مثلها، غير متوقّعة.
بدأت متابعة كرة القدم طفلًا في مونديال فرنسا 1998، من وقتها وأنا مشجع ألماني ميّال للفرق التي تلعب بطريقة سريعة وحادّة وجماعية، لكنني لا أنكر أنني أستمتع بسامبا البرازيل ومعجب كبير برونالدو الظاهرة وأحب اللاتينيين باستثناء الأرجنتين، لا يوجد أي سببٍ منطقيّ، عاطفة وحسب.
تخيلت في مراهقتي أن أصير لاعبًا كبيرًا، وأظن أنني حاولت، لكنَّ بنيتي الجسدية الضعيفة، والشرود في أوقات لا ينبغي الشرود فيها طردا هذه الخيالات مبكرًا، لكنّي أمارس كرة القدم كهواية مع الأصدقاء حتى اليوم.
متعة الشعر هي متعة الخلق، الرعشة التي تنتابك حين تشعر أنك قلت ما لم يُقَل من قبل، وبدا جميلًا، ربّما أقول أنَّ لاعب كرة القدم يشعر بنفس المتعة حين يسجّل هدفًا جميلًا في مباراةٍ صعبة، لم أجرّب لأحكم، لكنَّ الفكرة مثيرة للاهتمام.
نوّارة خنسا: إنّها نُدبة جميلة
لعلّ كرة القدم بفطرة الإنسان، نتابعها بحبّ كما نفعل أيّ شيء آخر مستفزّ وملفت. يعيش العالم هذا الحدث المونديال كلّ أربع سنوات، بطبيعتي أحب متابعة الكرة بشكل كبير وأحب الفريق الايطالي وأنتظره دائمًا. لكن ولسوء حظي لم أحظ بمشاركته هذا العام، صرتُ أميلُ بشكل محبّ للمنتخب البرتغالي.
أحببتُ كرة القدم مذ كنت في الرابعة عشر من عمري، ما زلت إلى الآن أذكر أول نص كتبته كان في كرة القدم وكرة السلة أيضًا.
تكمن روح القصيدة في المواضيع التي يتناولها الشاعر أو الكاتب بشكل عام، هذا ما اتفقت عليه مع نفسي منذ أول قصيدة كتبتها. رأيت في الرياضة مواضيع هامة وأفكار تلعب ككرة في رأسي، كتبت عن عدة مباريات ولاعبين مقالات وتذكارات وضبتها في ذاكرتي!
لكلّ لاعب في كرة القدم وجود واضح وأثر أوضح يبقى حتى بعد اعتزاله.
لكنني لم أتخيل نفسي يومًا ألعب الكرة!
لهذه الرّياضة أثر جميل في الشّاعر والشّعر والمثقفين. قد يكونان في طريق واحد، وقد يأخذان الشاعر إلى مكان جميل في فكرته كما الشعر الذي ينقل الشاعر من حالة إلى حالة أخرى من نفَسٍ إلى نفسٍ آخر الشعر الذي هو بكل أحواله حالةٌ وموهبة.
أفكر الآن ماذا لو كنت لاعب كرة قدم؟ هل كنت لأحقق ذات الرضا؟ لا أدري لكن ما أعرفه بالضبط أنني في الحالتين هناك ندبة وهذه الندبة جميلة.
أوس حسن: يلعبون الكرة كما نبني نصًا!
بدأت قصتي مع مونديال كأس العالم عندما كنت طفلًا يبلغ من العمر عشر سنوات تقريبًا، إذ كنت قبلها ألعب كرة القدم مع أطفال الحي وأتابع الرسوم المتحركة لكرة القدم.
كان مونديال عام 1994 هو البداية التي انطلق منها حبي وشغفي بكأس العالم، وتحديدًا المنتخب البرازيلي، وأذكر في ذلك المونديال أنّي أثرت إعجاب الكبار من أقربائي، ومن أهل منطقتنا، فقد كنت أتمتع بذاكرة حفظ قوية وكنت أحفظ نتيجة جميع المباريات في ذلك المونديال وأسماء اللاعبين، وهدّاف المونديال، وأفضل لاعب وأفضل هجوم ودفاع. كان روماريو في وقتها هو اللّاعب الّذي طغى على أسطورة ماردونا، وترسّخ وجوده في ذاكرتي مع زميله ببيتو.
منذ ذلك الوقت ارتبط عشقي لكرة القدم بعشق البرازيل، وكنتُ شاهدًا على أجياله المتغيرة مع الزمن، ولاعبي المفضل حتى هذه اللحظة هو رونالدو.
حزنت وتألمت ورقصت وضحكت مع منتخب البرازيل في جميع كؤوس العالم التي شهدتها.
إنّ كرة القدم أيضًا تشترك مع الأدب والفن في تدوين اللحظات المصيرية عند الإنسان، وفي إضفاء المعنى على الحياة، وكثير ممن يتابع هذه اللعبة ويشجع فريق معين هو يبحث عن فرح نادر يمنحه له السحر المنبعث من كرة القدم.
يتقاطع الشعر مع كرة القدم في ذلك الإبداع الذي يصنع الدهشة والجمال في لحظات غير متوقعة وروتينية، لكن يجب ألا نتوقف عند مفهومي الإبداع والجمال، بل إن اللعب الحديث والاستراتيجي في كرة القدم، يعلمنا كيف نبني النص بناء محكمًا، كيف نوفّق بين عناصر القصيدة.
الأخطاء في كرة القدم أيضًا لها لذتها ونكهتها الخاصة في ما تثيره من تضارب في المشاعر وحدة في الانفعالات.
لم أتخيل نفسيي يومًا لاعب كرة قدم إلا في مرحلة الطفولة والمراهقة، وهي المرحلة التي يكون فيها الإنسان متأثرًا بشخصيات مشهورة وبأبطال واقعيين أو أسطوررين.
بقي أن أقول إن كرة القدم هي من أعظم ابتكارات المخيلة البشرية، فمع حدث كبير مثل مونديال كأس العالم نشعر دائمًا أن دراما الحياة تستحق أن تُعاش بكامل صراعاتها وتناقضاتها، وإنّ هناك شيء ما يمنحنا امتلاء في المعاني وسيادة في الكينونة، تمامًا كأي قصيدة أو عمل فنّي.
علي أصلان: رحلة البحث عن مشهدٍ خاص
أتابع أغلب مباريات المونديال هذا الحدث المتكرر كل أربع سنوات. أشجع المنتخب الايطالي الأقرب إليّ في الشعر والسينما والروح.
مثلما توجد ساحة للكرة توجد ساحة للفن والأدب هم يتشابهون في الروح لكن يختلفون في طريقة اللعب.
الكرة تشبه النص تعلق كبير بينهما. في الكرة لدينا الهدف وصناعته مشابهة لصناعة النص تمامًا، طرائق الصناعة تحتوي على روح فنية.
أعترف أنني تخيلت الكتابة لعبة وأنا لاعب داخل الورقة والمفردات هي كرتي، الفرق بالشكل فقط.
تعرفت على الكرة من خلال صديق أبي كان يصطحبني معه إلى الملعب من عمر 5 سنوات.
بدأت المتابعة الجادّة لكرة القدم منذ مونديال 1998 وقتها أتذكر الصراخ وبكاء المشجعين في نهائي المونديال الّذي فازت به فرنسا على البرازيل.
في طفولتي ومراهقتي لعبت كرة القدم ولكن لم اتخيل نفسي لاعبًا وقتها.
الشعر أعلى متع الحياة بالنسبة لي فهو يصنع لي جناحًا ويحطم كل الأسقف والحواجز على هذا الكوكب، داخل الورقة أكونُ إلهًا لنفسي وسيدًا لها.
لا أدري لو كنت أيّ شيء غير كاتب أو صانع الأفلام الحالة التي أنا عليها الآن. هل كنتُ سأحقّق هذا الرضا عن نفسي؟ رغم أني لم أصل إلى مستوى الرضا عني، سأكون راضيًا بالتأكيد حين أصنع مشهدي الخاص.
لين نجم: يمكنني أن أكون لاعبة كرة أرجنتينية
ليتني أحبّ كرة القدم. هذا كلّ ما أفكّر فيه في هذا الوقت من العام. يمكنني أن أكتب رواية لألف عام أو أن أخترع الشّعر. يمكنني أن أصنع فيلمًا سينمائيًّا طويلًا من لقطة واحدة لامرأة حزينة في حانة ولكن لا يمكنني أن أحبّ هذه اللّعبة، ربّما للتهافت الهائل عليها. بطبيعتي أبتعد عن الأشياء الّتي تصير مشاعًا ولا تعود حرفة لأناس مختارين. أحب أن أؤمن بالإستثناء والتقديس. هذه هي مشكلتي. وأعرف أنّني لست شاعرة، لأنّ الجميع شعراء. ولست كاتبة ربّما لمشاعيّة الرواية. هل أكون في مداخلتي هذه استثناء؟ لا أدري!
ربّما استثناء يحبّ كرة القدم في السرّ. وأعرف أنّني وضعت هذا السر في المكبوت حين لم تخترني معلمة الرّياضة لكي أكون في الفريق. اختارت أفرادًا يجاهرون في حبّهم للّعبة. من وقتها وأنا لا أعرف كيف أحكي، كيف أجاهر بالأشياء علنًا. وصرت أكتب.
عملت أشياء أخرى طبعًا، يمكنني أن أتخلّى عن هويّتي كشاعرة دائمًا. أسقطها عنّي كما أتعرّى من ثيابي في كلّ ليلة قبل النوم. أحببت السّينما وصنعت أفلامًا كثيرة في رأسي. لم أكن أحمل كاميرا بين يديّ، اعتدت على التقاط الصّورة من خلال العينين. السينما جعلتني كائنًا بوجوه كثيرة، صار يمكنني أن أكون كلّ ما أريد. وقفت وراء البار وصنعت مشروبًا، رقصت فصرت راقصة محترفة، رافقتُ موزّع موسيقى فصرت أعرف كيف أوزّع الموسيقى وألعب بها وأحتفي بسطوتها.
لا أدري لو كان يمكنني أن أصير لاعبة كرة قدم أرجنتينيّة!
لو أردت يمكنني أن أكون كلّ شيء غير الشّعر!