تشكل الرواتب في لبنان مادةً دسمة للنكات. "المعاش"، الذي يفترض أن يعيش منه المواطن، يكاد يكون مزحةً تثير الضحك "المرّ". "بدل الأتعاب" الشهري عن ثلاثين يومًا من الكد والتعب بالكاد يلامس الحد الأدنى للأجور. لا يلبث أن يحضر ليتبخر أو يذوب كحبات الملح في جيوب اللبنانيين عند توزّعه على الفواتير الثابتة وتغطيته للنفقات المتحركة المرتبطة بـ"ترف" مرغوب أو مصروف مفاجئ.
تستشري موجة الغلاء في لبنان مع موسم الأعياد وتصل بعض المنتجات إلى أسعار خيالية
المناسبات التي يبذخ اللبناني في الإنفاق عليها، وفق ما هو رائج وعـ"الموضة"، تعدّ واحدة من أبرز أسباب "التفقير" السريع. ففي موسم الأعياد تشتدّ المنافسة بين المحال والمؤسسات التجارية على تقديم عروضها بطريقة جذابة "لا تترك زبونًا من شرورها". لذا لن تكون مهمة التسوق للأعياد بما تتطلبه من حلل جديدة وهدايا للأصدقاء والأقارب إلا عملية مدّ وجزر بين الرغبات والإمكانات، تفضي فيها العملية الحسابية في أغلب الأوقات إلى "صفر" بالليرة اللبنانية أو بالدولار الأمريكي.
اقرأ/ي أيضًا: عاشت بيروت حلوة و"رخّوصة"
وتبتكر المصارف التجارية بدورها شعارات "برّاقة" لتقنع اللبنانيين بأنها "تحرص على راحتهم" وأنها "تفكر بمصلحتهم"، فتقدم لهم مروحة من البطاقات التي تخوّل لهم الاستدانة عبرها من البنك لسداد فواتيرهم والسندات المستحقة عليهم، على أن تنال بجانب المبالغ المستردة فائدة "مرموقة" توغل في الإنفاق على حساب الموارد الثابتة والتي تصل في آخر الشهر على هيئة "راتب" متواضع وخجول لا يحب الأضواء ولا يستسيغ إطالة المكوث والبقاء فيجد لنفسه ألف طريقة للهروب.
ما يُعد حاجة ثابتةً ودائمة هي الأطعمة. تقع في رأس لائحة الضروريات بين مجموع المشتريات. وهي تملأ السلال في المجمعات التجارية عند مرورها على الألبان والأجبان، اللحوم، الخضار والفاكهة ومأكولات أخرى. الغريب والمريب في آن واحد هو تلك الأسعار التي تصدم اللبناني أمام أصناف من الفاكهة في غير موسمها، وما تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي قبل أيام من صورة لأحد الرفوف في واحدة من "السوبر ماركت" الضخمة ويبلغ فيها ثمن كيلو الجنارك الواحد 50 دولارًا أمريكيًا، فيما يبلغ سعر الكرز أقل بحفنة دولارات للكيلو. هذه عينة عن "جنون الأسعار"، التي ترتفع بصورة شاهقة فيما يبقى "الراتب" رشيقًا وخفيفًا يطير سريعًا كالريشة.
يسدد اللبنانيون فواتير مضاعفة من أجل العيش اليومي كما أن الترفيه مكلف في لبنان مقارنة بالأجور
سامي، يقصد وأفراد أسرته عند كل أول شهر إحدى المولات لابتياع كل الحاجيات دفعة واحدة. زوجته التي ترافقه تختار من قسم العروضات معظم المشتريات للاستفادة من الخصم من جهة ومن الهدايا المرفقة مع عدد من السلع من جهة أخرى. "ومع ذلك ننفق الكثير، ولولا أن زوجتي العاملة تشاركني في تحمل المصاريف لكنت أشهرت إفلاسي منذ زمن"، يقول سامي. عند الصندوق، تطول فاتورة أسرة الرجل. لكنه اعتاد المبلغ "المرقوم"، الذي يدفعه عند كل أول شهر ويعفيه من أن يقصد الدكاكين خلال ما يتبقى من أيامه، لذا يدفعها بطيب خاطر مع بعض التحفظ على "شراهة" ولديه في ابتياع ما ليس له حاجة أو يمكن على الأقل تأجيل شرائه.
منال قصدت من جانبها أحد المولات للتسوق كالعادة. لكنها عادت بخفي حنين بعد أن فاجأتها الأسعار، التي قفزت بصورة جنونية إبان فترة الأعياد. لذا ارتأت أن تؤجل "الشوبينغ" إلى ما بعد العيد فتغنم من الخصم الذي تلجأ إليه المحلات بعد تراجع الإقبال على الشراء. صديقتها التي رافقتها اختصرت مشترياتها إلى حدودها الدنيا، فلباس العيد ضرورة إن لم يكن لها فلأولادها وواجبها رسم الفرحة على وجوههم في هذه المناسبة. لذا، وعملًا بمقولة "رخيص وكويس وابن ناس"، بحثت السيدة عن ما يتلاءم مع ميزانيتها ولا يخرج عنها واختارت ما سيسرّ أولادها وجيب زوجها في آن واحد. لكن كل هذا، يمر من دون أي رقابة من الدولة ولا من قبل "جمعية المستهلك"، حيث الغلاء يستشري، وكل يوم بحجة جديدة. فهل يستفيق اللبنانيون، يومًا، ويجدون أنفسهم غير قادرين على شراء حاجاتهم الدنيا؟.
اقرأ/ي أيضًا: