لا يمرّ يومٌ على فلسطين، منذ بداية هذا العام، حتى يستيقظ أهلها على نبأ شهيدٍ جديد أو شهداء جدد، ومشهد الموت الفلسطيني الذي يتكرّر بصورة يومية غير منقطعة ليس جديدًا، فهو مشهد بدأ منذ نكبة عام 1948، ولم يتوقّف منذ ذلك الحين.
دائمًا ما يُحيلني استذكار تفاصيل كثافة الموت الفلسطيني الذي بدأ مع النكبة إلى كتاب إسماعيل الناشف والذي يَحمل عنوان "صور موت الفلسطيني"، لم أقرأ هذا الكتاب، لكنّني قرأتُ كثيرًا من المراجعات حول مضامينه وتفصيلاته، وحول سعي مؤلّفه لتسليط الضوء على صور الموت اليومية التي يشهدها المجتمع الفلسطيني، والتركيز على تبيان علاقة هذه الصور بتشكيل ملامح هذا المجتمع من حيث النظرة الجماعية إليها، والتفنيدات الجمالية لها في المنطق الجماعي للشعب الفلسطيني.
أيّ إنسان فلسطيني يجلس قليلًا مع نفسه، ويُفكّر في كثافة هذا الموت من حوله، لا بدّ له أن يُكوّن لنفسه صورة في مخيلته الفردية حول طريقة الموت التي تنتظره
وبعيدًا عن مضامين الكتاب، فإنّ أيّ إنسان فلسطيني يجلس قليلًا مع نفسه، ويُفكّر في كثافة هذا الموت من حوله، والذي يتكرّر بصورة يومية، بطريقة القتل والتصفية العلنية الذي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي منذ النكبة، لا بدّ له أن يُكوّن لنفسه صورة في مخيلته الفردية حول طريقة الموت التي تنتظره، والتي لا تخرج عن صورة الموت الاعتيادي بالقتل والتصفية العلنية، وهو الموت الذي يتكرّر حوله كلّ يوم ويتواصل دون فاصل أو فترة انقطاع.
صورة موت الفلسطيني التي تتشكّل في مخيلته الفردية، تَخرج إلى العلن من خلال تعبيراته الكتابية والجمالية عن نفسه وعن فلسفته في الحياة، ومن هنا فقط، يُمكن فهم نبوءة شهداء فلسطين بشهادتهم، تلكَ التي نعثر عليها مثلًا في حساباتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي، عندما نقرأ في نبذتاهم الشخصية والذاتية عبارة "شهيد على قائمة الانتظار"؛ هذه العبارة التي تُلخّص صورة الموت الاعتيادي كما يتصورونه ويرونه في مخيلتهم الفردية أو ربّما أمنياتهم الشخصية.
ومن هنا أيضًا، يُمكن فهم هذا الاحتفاء المبالغ به بالموت من قبَل العديد من الشعراء والكتاب الفلسطينيين، مثل الشاعر تميم البرغوثي الذي يقول في قصيدته "يا مُدرك الثارات":
"يا مُدرِك الثارات أدرِك ثارنا
واحفظ على أولادنا أخبارنا
إذ اعتبرنا الموت ضيفًا زارنا
قُمنا وقدّمنا له أعمارنا
ولا استشرناه ولا استشارنا
نختاره قبلَ أن يختارنا".
يؤكّد البرغوثي في المقطع السابق بأنّ الإنسان الفلسطيني يَخلق له أساليب ابتكارية في الثأر للشهداء من إخوته، بأن يُقبِل دائمًا على الموت دون خوف، ويتبّع أساليب المقاومة للعدو المحتلّ واحتمالية موته وشهادته قريبة منه، وموضوعة أمام نصب عينيه، فكأنّه يثأر للشهيد الذي سبقه بأنْ يسيرَ على طريقه ويجعل من نفسه عرضة للشهادة.
ومن المقاطع الشِعرية التي تجيء لتؤكّد فلسفة الخوف المعكوسة بين الفلسطيني وموته قول محمود درويش في قصيدته "حالة حصار":
إلى الموت: نعرفُ من أي دبابة
جئتَ. نعرفُ ما تُريد.. فعد
ناقصًا خاتمًا".
مَقْطَع درويش السابق يأتي ليقول بأنّ احتمالية الموت الدائمة القريبة من الإنسان الفلسطيني، تَجعله متوقَّعًا في نفسه ومخيلته، وهو ما يَنعكس سلبًا على الموت الذي ما أن يقترب منه ويجد نفسه في خانة العادي والمتوقّع، حتى يعود منكّسًا رأسه خائبًا وناقصًا.
فكأن دعوة غسان كنفاني إلى الفلسطينيين في عبارته: "احذروا الموت الطبيعيّ ولا تموتوا إلا بين زخات الرصاص"، هي دعوة يستجيبُ لها الفلسطينيون في المخيلة والواقع في كلّ وقتٍ وحين، فمن شاب يذهبُ لإلقاء حجرٍ وفي جيبه وصيته، مرورًا بشيرين أبو عاقلة التي استشهدت وهي تؤدي عملها في نقل الحقيقة بينَ زخات الرصاص، وصولًا إلى خضر عدنان الذي أرادَ حريته -بسلوك طرق الإضراب عن الطعام- ودفع حياته ثمنًا لها.
وكأنّنا جميعنا كفلسطينيين في اختيارنا لطرق المقاومة المختلفة، وفي إصرارنا على الجلوس على طرقات الموت المتربّص بنا في كلّ وقتٍ وحين، نفلسفه ببساطة، دون الحاجة إلى عُدة فلسفية، ونعيدُ مفهمته دون الحاجة إلى أدوات معرفية، لنؤكّد بأنّ الطبيعي منه لنا هو ذاك الذي يبتعدُ عن كلّ طبيعي واعتيادي وسائد.