الأيام الأخيرة أشعلت السؤال المستمر منذ سنوات: كيف نتعامل مع من يعادون أبسط مفاهيمنا وقناعاتنا عن حقوق الإنسان وحرياته؟ ما هو التصرف الأسلم معهم وهم موجودون في قوائم أصدقائنا على فيس بوك وحولنا في كل مكان؟ كيف أتصرف مع من يستهزئ بقصة امرأة مغتصبة ومعتقلي رأي ودم أطفال في الشوارع؟ هل عليّ أن أشن عليه حربًا ومواجهة مفتوحة أم أنحي كل هذا جانبًا وأقول هذه قناعاته وهو حر. خاصة ونحن نعيش بعيدًا نسبيًا عن الحرب الدائرة فعلا وعن الدم الحار، ولدينا معاركنا الراهنة مع الاحتلال وأعوانه وغيرهم.
ماذا أفعل بمن يحذرونني كل يوم من ارتفاع منسوب خطاب الكراهية وتوسع انشقاقات الناس ووقوف على مبعدة خطوة من الصدام الأهلي؟ ودعوتي المستمرة ألا أكون جزءًا من هذا، كأنني حين أهاجم مناصري القتل والاعتداء والقهر فأنا جزء مما يسمى انقسام الناس وخطاب كراهيتهم المتبادل!
ماذا أفعل مع شاعري المفضل حين يبرر للطاغية ذبح الناس ودفنهم تحت الأبنية بصواريخه وصواريخ أسياده؟ ماذا أفعل حين أجد صديقي الذي شاركته مشاهدة مباراة في المقهى يهدد ناشطات لأنهن يخالفن موقفه من ثورة هنا أو هناك؟
إن كنت تبرر الاعتقال أبد الدهر دون محاكمة في بلد آخر، فكيف سنتظاهر معا ضد اعتقال صديق لنا هنا؟!
أنا لا أريد أن يمتد الصدام إلى محيطي، ولست داعية حرب أهلية ولا خطاب كراهية، ولا أتمنى الحرب ككل العاقلين وما أزال مقتنعًا أن هنالك الكثير مما يمكن إنقاذه في هؤلاء "الأصدقاء". طيب ماذا أفعل؟
إقرأ/ي أيضًا: ضد التعددية والاختلاف
الحل يحتاج لأحداث فاصلة كالتي نعيشها، يحتاج لحديث واضح، غير سياسي، بل إنساني قبل كل شيء، لا يجعل مجالا للشك ولو لذرة في ما يقوله فلان أو علان. ثم بعد ذلك، فالخيار الأسلم برأيي هو المقاطعة. مقاطعة تواصلية واجتماعية وثقافية حتى يدرك المخطئ أنه مخطئ وخياراته مرفوضة ولا تساهل معها وليست شأنًا ثانويًا.
يمكن أن أحتفظ بك في قائمة الأصدقاء إن كنا نختلف في التحليل السياسي، وفي تقدير الموقف السياسي من مسار ما. ولكن كيف يمكنني أن أتفاهم مع ترحيبك بقتل الأبرياء؟ مع دفاعك عن اغتصاب نساء واعتقال بشر وتعذيبهم لأنهم يخالفونك في الرأي؟ لا يمكنني لا مجالستك ولا الحديث معك ولا قراءة شعرك ولا حتى مبادلتك أبسط الود الإنساني. لأنك ببساطة تقتله. لأنك بعقليتك هذه ستقتلني عند أول توتر، ستستبيح كل شيء.
تخوف الناس بداعش ولا تحمل لهم تصورات مختلفة عما في خيال الدواعش، هم يقتلون باسم دينهم وأنت تقتل باسم محورك. ترى في الأعداء ما لا ترى لدى جماعتك، وهو من نفس النوع والصنف والحجم. تحالف إيران لأنك تخاف من تطبيق الشريعة كأن إيران تطبق المعكرونة مثلا. تخاف على السيادة الوطنية وتخاف من التقسيم، كأن المليشيات الأفغانية والعراقية واللبنانية شوام أبا عن جد أو حماصنة منذ الأزل، وكأن بوتين حموي.
فلسطين إدانة لكل نظام عربي، ولا يمكن لعقلي المتواضع أن يقبل تحويل فلسطين لهدية مجانية لنُظم لم تفعل لها شيئًا
تتحدث عن فرية "جهاد النكاح" وتنسى اغتصاب أقبية التحقيق، تتحدث عن تزييف الإعلام وأنت تتابع الميادين، ولولا الحرج لنشرت فيديوهات الفضائية السورية، تحذر من الطائفية والإرهاب السني، كأن المليشيات العراقية من نتاج قيم التنوير الفرنسية. لماذا تخاف النقاش على مستوى مفاهيم حقوق الإنسان البسيطة؟ أنا أقول لك، لأنها ستظهر أنك تقف في صف القتلة وأعوانهم.
هنالك بديهيات لا يمكن تجاوزها، من أطلق النار على متظاهرين عزّل طالبوا بالإصلاح لأشهر (ليس إسقاط النظام بالمناسبة) وقتلهم وأطلق قادة الجماعات المسلحة المتطرفة من سجونه عشية التظاهرات؟ لا تتجاوز عن هذا، القفز عنه ممنوع.
لا يوجد غبي سيفهم كيف تقول إن مشكلتك مع استخدام السلاح ولم تكن لديك مشكلة مع المتظاهرين العزّل، وأنت تدافع عن النظام؟!! إن كنت مع الناس وثورتهم ثم رفضت المسار الذي آلت إليه الأمور، فلا يمكن أبدا أن تصبح مع النظام، أنت معه منذ اللحظة الأولى ضد المدنين وضد التظاهر وضد مطالبة الناس بأبسط حقوقها. كل ما تسوقه من جدالات هو لتغطية هذه الحقيقة وتخفيفها لأنها غير مقبولة ولا يمكن الدفاع عنها، تماما مثل حشر فلسطين وتحريرها في النقاش، لا أحد في النزاع الذي يشغل كل حياتك يفكر بفلسطين، النظام الذي يريد تحرير فلسطين لم يفعل شيئًا وهو في عز قوته فلماذا سيفعل الآن؟
اقرأ/ي أيضًا: ما بعد ترامب
هل يحتاج الأمر لتكرار، طيب، لمرة أخيرة، حلفاء أمريكا العراقيون هم من يقاتلون مع النظام في سوريا، ترامب يحب بوتين وبوتين يحبه، إيران وقعت اتفاقا مع أمريكا، يشبه اتفاقيات السلام بل وتضمن غض طرف عن مصالحها وتوسعها ما لم تمس مصالح أمريكا، والعراق نموذج لطيف للتعاون. هذا الناطق باسم الجيش الحر الذي تتخيله قناة الميادين ويظل يقابل الإسرائيليين كما تقول، لم يقابل وينسق حتى في الخيالات كما يفعل الروس مع نتنياهو، الروس الذين يحكمون سوريا من بابها لمحرابها بكل مليشياتها وبقاياها، والذين صرت ترفع علمهم وصور جيشهم في مظاهراتك.
فلسطين إدانة لكل نظام عربي، ولا يمكن لعقلي المتواضع أن يقبل تحويل فلسطين لهدية مجانية لنُظم لم تفعل لها شيئًا، بل استخدمتها توطئة لقتل مواطنيها. أحيانا أتخيل أن فلسطين قد تحررت تمامًا على يد الإيراني والسوري حين أسمع كلامك. من ينسق مع إسرائيل توسعها في سيناء حليف للجيش العربي السوري أو ما تبقى منه ملحقا بالمليشيات الإيرانية والعراقية. لكل هذا لا يمكنك استخدام فلسطين وإسرائيل في النقاش كأن عمر عقولنا 3 سنوات، الأمر أعقد من ذلك لو فكرت، أو لو فكرت بالتفكير أولًا.
إن كنت في محور تحاول الدفاع عنه بأي ثمن دون أي قاعدة إنسانية بسيطة، فلا حل معك إلا المقاطعة. كما نقاطع الدواعش نقاطعك. انت في شأن بعيد تستسهل تبرير الدم والقتل والاغتصاب فماذا ستفعل بنا لو، لا شاءت الأقدار، وصل أي صدام لمحيطنا وكنت طرفا؟
نعم يمكن أن أقاطع من كانوا أصدقائي، لأن كل الحديث والنقاش والجدل لم يسفر إلا عن وضوح ابتعادهم عن أي قيمة إنسانية بسيطة. تماما كما سأقاطع أي قريب أو صديق يضطهد زوجته أو يمارس قهرًا على بشر آخرين، أو يعمل في مؤسسة أمنية تعذب المعتقلين، أقاطعه وأتبرأ منه، هذا أقل القليل. وهذا أقل ما يمكنني فعله لتصويب مساره، أنا بذلك أمنع الصدام بدل أن أشجعه، أنا بذلك أحاصر الكراهية بدل أن أكون طرفا فيها.
لا يمكنك استخدام فلسطين وإسرائيل في النقاش كأن عمر عقولنا 3 سنوات، الأمر أعقد لو فكرت، أو لو فكرت بالتفكير أولًا
يمكن في زاوية ما من المنطق أن أفهم إكراهات من يعيشون الحرب واضطرارهم للاصطفاف مع من لا يرضون كل ما فيه، أما أنت فلا يمكن، تعيش في مساحة من الراحة والبعد عن حرارة الصدام وتتخذ أشد المواقف سوءا، هكذا بالمجان. والأهم هنا أن كل محاولات تعمية حقيقة البعد الأخلاقي في كل ما يحصل ولبس كل شيء بلبوس سياسي لم تعد تنطلي على أحد، فخطاب الحريات والحقوق محرج وأخلاقي ومربك فلذلك تظل محاولات مناوئي الإنسان في كل مكان إظهار الأمور على أنها أعقد من حقوق الإنسان، فيما هي ليست إلا على هذا المستوى الجوهري والأولي والأساسي.
لم يعد بإمكاني الخروج بمظاهرة لا أنظر فيها لمن هم حولي. إن كنت تبرر الاعتقال أبد الدهر دون محاكمة في بلد آخر، فكيف سنتظاهر ضد اعتقال صديق لنا هنا؟! إن كنت تتغاضى عن اغتصاب المعتقلات، فكيف ستقتنع إحداهن بالتظاهر معك؟ حتى لو كانت مظاهرة تحرير فلسطين كلها!
لا تزال الأحداث تتوالى لتكشف حقيقة النزاع وجوهره، وهذه مناسبات للوصول إلى خلاصات، لم يعد ممكنًا القول إنك مضلل أو مغرر بك، أنا وأنت نعرف جيدًا أنك تعرف حقيقة مواقفك، ولذلك وإزاء كل هذا أنا أدعو للمقاطعة، احتراما للضحايا ولأنفسنا وحرصًا على مجتمعنا ومحيطنا من كل نزعات القتل والقهر وتبريره.
اقرأ/ي أيضًا:
هل نفرح بالحريق أم نبكيه أم نبكي حالنا؟
اصْنَع الفُلْك وهاجر