عشرون يومًا من الحجر الصحي، قلمي أصابه شللٌ تام، وغدا الوهن يتخلل كل أطرافه. قلقٌ عام تحمله كل جلسة أحاول فيها عبثا اعتصار الكلمات من قربة فارغة، هي دماغي الذي التصق جلده ببعضه. أترك الأمر، بعد أن مللت حالة التخبط، بين المكتب والنافذة، وبين القلم والولاعة، على أن أعود له لاحقًا. لا أعود حقيقة، ويظل الأمر معلقًا هكذا، لا هو ناجز ولا منعدم.
أمل بوشارب: "يبدو لي العالمُ الآن متوقفًا في لحظة غريبة يود نسيانها، وكتابة أي شيء الآن ستجعل مصيره مثل مصير هذه الأيام"
هي سمة الأيام الأخيرة في حياة كلّ كاتب القلق الذي قدمت على ذكره، ومع أنني خلته للحظة مقتصرًا علي، دفعني الاستغراب إلى سؤال بعض الأصدقاء سؤال واضحًا ومباشرًا: ما حال الكتابة عندكم؟ أجابني صديقي محمود وهبة، الشاعر اللبناني، أن الأمر أشبه ما يكون بقرع رأسه مع الطاولة. الصديقة والروائية المغربية سكينة حبيب الله، قالت إنها أسوأ لحظات مرّت بها، ولم يعد بإمكانها التفرغ للكتابة منذ مدة. أما الصديقة الروائية الجزائرية أمل بوشارب، خاطبتني كعادتها في محاولة تهوين الأمر: "يبدو لي العالمُ الآن متوقفًا في لحظة غريبة يود نسيانها، وكتابة أي شيء الآن ستجعل مصيره مثل مصير هذه الأيام".
اقرأ/ي أيضًا: ذات يوم سينتهي هذا الزمن الغريب.. كتب للأطفال في زمن الجائحة
"إذن هي المأساة، عامة!"، أحاول جاهدًا دحر الفكرة مجابها العمل بالمنطق الشعبي الأصيل: إذا عمت هانت! لم تهن بعد، خصوصًا لدى كاتب يعتاش من كتابته، أي توقف يعني خروجه ولو مؤقتًا عن مسار التاريخ، بما هو عاملٌ منتج بقلمه وبما هو كذلك المسؤول عن تدوين اللحظة على الورق.
عدا هذا، وعلى ما يبدو، أن المناسبة لم تعزُ مقتنصًا لها. وأقول اقتناصًا دون أن أضفي على الأمر لمسة شاعرية من قبيل "تسلل الجائحة إلى دفاتر الشعراء" كما وصف صحفي في إحدى المواقع العربية. هي "مناسباتية" تلك التي نضحت بها المنشورات مع أول انتشارٍ للوباء، وتفشت أكثر من رعبه، وربما صدق صاحب مقال "تسلل الجائحة" لو قصد بذلك التسلل تسللًا وبائي.
"أكورونا المتوجة بمجد غدرك وفرديتك المؤسسة على تلمودك، أقتل كي تكون؟"، تتساءل قصيدة تندرج في ضمن الاقتناص المذكور، والتي اختار لها صاحبها العنوان "كورونافوبيا". أتساءل بدوري عن الرابط العجيب في مخيلة شاعرنا بين كورونا والتلمود، إلا إذا كانت محاولة تقليد كاريكاتورية لمحمود درويش في قوله: "يخرج الفاشي من جسد الضحية، يرتدي فصلًا من البارود، أقتل كي تكون" (مديح الظل العالي).
متعللًا بإثم بعض الظن، أغلب بعضه الآخر الذي يضعني داخل خانة الصواب، دون أن أجد نفسي مضطرًا إلى عناء "شرح الواضحات" عن سبب ذلك. لا يقف صاحبنا عند هذا الحد، كما لا نقف معه وهو يمضي في التساؤلات قدمًا، وصولًا إلى الإجابة عنها في الاحتفاء بالوباء المخلص من جور الرجل الأبيض، وعلى أن الوباء نتاج جور هذا الرجل بقوله: "كورونافوبيا غول الحضارة يذرع بجناحيه القرى والعواصم، إنتاج نرسيس الأبيض، محو المحو، تسريع وتيرة الموت". لن أعلق كذلك عن هذا الموقف السياسي، ولأطرح نقطتين في نظري أساسيتين: أولًا، استمتاع النص بحشو كلمة "كورونا" أو "كورونافوبيا" في أي شطر من أشطره، وفي غالب الأحيان دون لزوم هذا الحشو، ما يمنحه حسب نظرة السيد الكاتب الجمالية جمالًا. يتنازل في بعض الأشطر الأخرى عن هذه الممارسة اللذية الطفولية وعن هذه النظرية الجمالية الفذة، ليعوضها بتنويع لا يقل فجاجة بين الفاعل والمفعول: "الصانع والمصنوع، القاتل والمقتول، المروع والمروع"، أو الجنوح إلى تقليد مكشوف لمحمود درويش. ما يجعل النص في مجمله جمعًا بين هذه الأمور الدالة عن هزالة المضمون وشكليته التقليدانية: ربط أي شيء بأي موقف معد مسبقًا دون سبق تفسيرٍ لذلك الرابط.
شعراء مرموقون سقطوا في فخ الطلب الإعلامي المتعطش لركب الموجة بسبب كتابة نص شعري تحت الطلب عن كورونا
ثانيًا، الإيقاع السريع للنص، والخفيف جدًا، الذي يقطع حتى على الصورة الشعرية -على هزالتها- الاكتمالَ، يتم تعويض هذا النقص بما ذكر فوق من حشو وتلاحق فج لجمل مكررة. وهذا إن أحال على شيء، فهو يكشف عن عدم نضوج النص واختماره في مخيلة الكاتب قبل تجسيده على الورق.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| سعيد ناشيد: نعيش في عالم غير آمن
من هاتين النقطتين أجترح الأداة لقراءة "النص المناسباتي"، ولنرى مدى تكرارهما في النصوص التي كتبت في هذا الغرض. هذه المرة مع نص إيطالي، أطلقت عليه صاحبته العنوان: "سأحاول إبعادك". باعتبار أن إيطاليا مثلت أحد المآسي الصارخة للجائحة، لمس تلك المأساوية يفترض أن يكون بشكل أعمق. فيما لم يخرج نص شاعرتنا بدوره عما ذكر فوق. أو ليس سؤالها المتكرر "أين أنت أنا لا أراك؟"، المراد به ضمنيا التعبير عن الخوف من المجهول واللامرئي الذي هو الفيروس، شكلية مبتذلة في طرح الأمر؟ بل وتستمر شاعرتنا في محاولة عسيرة لإخراج صورة شعرية من أمعائها، أو شبه صورة إذ هي تأنسن الكورونا. في الأخير لا تكتمل الصورة، فتحول الأنسنة بعد ذلك عتابًا صبيانيًا: "أنت لا تعرف: كم أنت سيئ!". أليس كذلك هذا ما وصفناه بعدم نضج النص؟
الأمر يتكرر كذلك في نص إنجليزي، يتناص عنوانه والرواية الشهيرة لغابرييل غارسيا ماركيز: "حبٌ في زمن كورونا". والذي لا يخرج بدور من خانة المعالجة الشكلية للموضوع، من قبيل قول شاعرته: "هل تعلم أن كتابة الرسائل عادة دُرجة؟"، أو "إننا أخيرًا قادرون على قراءة الكثير من الكتب". أيضًا لا يكسر النصر شرط عدم النضوج، وهذا يعلله انكسار الموسيقى الداخلية للنص بشكل منفر، علمًا أن تقفية القصيدة كانت خيار كاتبتها الأول، تغيب في أقسامها الوسطى لتعود في الخاتمة متسارعة وكأنها تريد التخلص من ورطة ما.
الأمثلة على هذه النصوص كثيرة وليست مقتصرة على الجائحة الأخيرة، منها من يصنف شعراءها ضمن المرموقين، سقطوا في فخ الطلب الإعلامي المتعطش لركب الموجة. فيما كتابة نص شعري تحت الطلب، الشخصي أو الظرفي، عدا أنه لا يميز المقدم عليه بأي إضافة غير الاحتفاء المفتعل، فهو يحيل تصور الشعر في ذهن القارئ إلى مجرد انفعالات سطحية، شكلية وغيرَ ناضجة.
يجب على الشعر تعلم الصمت الطويل إزاء الواقع، قبل أن ينبس بأول كلمة في القصيدة
هنا، وللختام، أستحضر ما أجابتني به الشاعرة والصديقة الجزائرية سميرة نقروش، حين حاورتها حول "الشعر والثورة"، قائلة: "الكتابة الأدبية، وخاصة الشعرية منها، دائمًا ما تخضع لتوترٍ عالٍ وقت الهزات السياسية والاجتماعية الكبيرة. والشاعر بوصفه شرخًا زلزالي لهذه الهزّات، فإنها تتضخم في نظره، لذا وجب عليه الحذر من أن يسقط في فخ الخطابة السطحية والزبد الأجوف. وعلى عمله أن يلتزم الصمت والمسافة والعمق والمقاومة".
اقرأ/ي أيضًا: تهريب الأجساد الثقيلة من "الاعتقال الكبير"
هذا الأمر ينطبق على ما نعيشه اليوم، حيث وجب على الشعر تعلمَ الصمت الطويل إزاء الواقع، قبل أن ينبس بأول كلمة في القصيدة.
اقرأ/ي أيضًا:
الكوارث والإلهام.. اختبارات الخيال الفني
ألبير كامو حول كورونا.. المعاناة عشوائية وذلك أبسط ما يمكن قوله