حين أعاد الفنّان الرّاحل امحمد بن قطّاف، بصفته مديرًا لـ"المسرح الوطني الجزائري"، المهرجانَ الوطني للمسرح المحترف، إلى الواجهة منتصف العشرية الفائتة، بعد توقف دام سنواتٍ، كان المشهد المسرحي الجزائري في ذروة الحاجة إليه، هو الخارج من دوّامة عنف وإرهاب حصدت وهجّرت وأرعبت بعض رموزه، مع ذلك بقي على قيد المقاومة والعطاء.
أعاد الرّاحل امحمد بن قطّاف "مهرجانَ المسرح المحترف" بعد توقف في العشرية السوداء
اقرأ/ي أيضًا: رؤية عن العلاقات العربية القرن أفريقية
تزامنت عودة المهرجان مع بحبوحة مالية عرفتها البلاد، فأغدقت عليه الوزارة الوصية في عهد الوزيرة السابقة خليدة تومي، ليغدق بدوره على المسرح والمسرحيين، بما جعل منه عرسًا سنويًا حقيقيًا، يجمع الكبار والصغار والمقيمين والأجانب، في مناخات حميمة لعب فيها التبادل الفني والإنساني فعلته الساحرة، وهو ما ترتّبت عنه ولادات كثيرة.
عشرات الممثلين والمخرجين والسينوغرافيين والموسيقيين والكتّاب الشباب، باتوا ينافسون على جوائز المهرجان، بعد أن كانوا مجرّد كومبارس في زمن مضى، لأسباب تعلّق بعضها بشحّ الإنتاج، وبعضها الآخر بنفوذ عرّابي الإجهاض والاحتكار، والذين وجدوا أنفسهم على الهامش في الزمن الجديد.
لم يراهن المهرجان، بعد عودته، على تثمين الإنتاج المسرحي فقط، بل عمل أيضًا على زرع الوعي المعرفي والجمالي، بمختلف العناصر المسرحية، لدى الجيل الجديد الطالع من المحافظات الثماني والأربعين، وردم الهوّة بينهم وبين الروائيين والقصّاصين والشعراء، من خلال الملتقى العلمي والبرنامج الأدبي المرافقين لفعالياته.
حدثت أخطاء وتجاوزات وانزلاقات واختلالات معينة، على مستوى وجوه ودوائر معيّنة، داخل المهرجان، أملتها طبيعة المرحلة وطبيعة المؤسسة الثقافية الرسمية، وطبيعة العرّاب امحمد بن قطاف، في ميله إلى التسامح، لكنها لم ترقَ إلى منع الشجرة من أن تؤتي أكلها مرّتين، مرة أثناء سنوات المهرجان، ومرة بعد أن نكب برحيل عرّابه مطلع عام 2014.
بدأت مظاهر ذبول "مهرجان المسرح المحترف" بتقزيم ميزانيته حتى باتت عاجزة عن التكفّل باستقدام فرق ووجوه أجنبية
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة.. تقديم مكثف في الملف القبطي
بدأت مظاهر ذبول المهرجان، بتقزيم ميزانيته حتى باتت عاجزة عن التكفّل باستقدام فرق ووجوه أجنبية، كانت تساهم في خلق حوار داخل المهرجان، وتربط علاقاتٍ ولودة بينها وبين فرق ووجوه جزائرية، وعن استقدام مسرحيين هواة ليتزوّدوا في الأوراش التكوينية، بما ساهم في انتعاش الفعل المسرحي حتى في المدن النائية، وعن دعوة الوجوه المسرحية المعروفة لحضور الفعاليات، وبتأخير موعد انعقاد المهرجان أكثر من مرّة، حتى أن كثيرين توقعوا زواله.
وقد امتدّت يدُ التقشّف، في الدورة الجديدة التي انطلقت في 23 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وتنتهي في الثاني من الشهر المقبل، إلى الاستغناء عن البرنامج الأدبي وتعويض الملتقى العلمي بندوات للنقاش، والتقليل من صدور النشرية اليومية، وحصر الورشات التكوينية في ورشة واحدة، بما سيجعل من المهرجان، بحسب الممثل بوحجر بوتشيش، جسدًا كسيحًا، يستطيع أن يتنفّس لكنه لا يتحرّك.
بوتشيش قال لـ"الترا صوت" إنه كان سيتفهم هذا التقشف الذي مسّ عميد المهرجانات المسرحية في الجزائر، لو أنه مسّ أيضًا مهرجانات أخرى في مجالات أخرى، مثل السينما والموسيقى، "أمّا أن تبقى بعض هذه المهرجانات مدلّلة، رغم أن تأثيرها يكاد يكون منعدمًا، فإنه من حق المسرحيين أن يعتقدوا أن صوت المسرح بات مقصودًا إسكاته".
استفحال هذه النبرة في أوساط المسرحيين وأصدقاء المهرجان، دفعت بالناشط المسرحي فتح النور بن إبراهيم، أحد الوجوه التي ساهمت في عودة المهرجان سابقًا وتكريسه من جديد، قبل أن يتمّ تعويضه بغيره، إلى إطلاق رسالة في الصحافة الوطنية، من على فراش مرضه، يرجو فيها الجميع ترك كل الحسابات جانبًا، والاحتكام إلى حساب واحد هو العمل على استمرار المهرجان "بصفته مكسبًا لا كسبًا، فقد نخسره ولا نستطيع بعثه من جديد، فيبقى المسرح والمسرحيون من غير متنفس".
اقرأ/ي أيضًا: