يكاد الاحتفال بذكرى المولد النبوي في الجزائر، أو المغرب الأوسط بحسب الجغرافيا السّياسية القديمة، يكون أكثرَ حرارةً ونبضًا من الاحتفال بالأعياد الدّينية الأخرى، وأقلّها إصابة بالروتين، رغم انتعاش الأصوات الداعية إلى اعتباره بدعة دينية في السنوات الأخيرة، إذ يتزامن حلوله مع نشر الجماعات التي تعتبره بدعة مطوياتٍ، تتضمن فتاوى وأحكامًا بذلك.
احتفالًا بالمولد النبوي، تعمل الطرق الصوفية في الجزائر على تنظيم "الأسبوع" وهو تجمع تتخلله أدعية وأهازيج وألعاب الفروسية والبارود
غير أن نفوذ الطرق الصوفية التي تتبنّى الاحتفالات في البلاد، جعل معارضتها عاجزة عن الحدّ من ألق المناسبة وتغلغلها في النفوس والبيوت، من خلال عملها على تنظيم "الأسبوع"، في أكثر من منطقة، وهو تجمّع لأتباع إحدى الطرق الصوفية، عند ضريح مؤسسها، يكون شبيهًا بعرس عام، تتخلّله الأدعية والأهازيج وألعاب الفروسية والبارود، كما تقدّم فيه الأطعمة الشعبية وتعقد فيه مجالس الصّلح والمصاهرة.
اقرأ/ي أيضًا: المولد النبوي في تونس.. احتفالات وطقوس
ولئن كان الجنوب الصّحراوي يتميزّ بمناخات "الأسبوع"، بحيث تحوّله إلى عرس شعبي مفتوح، فإن الشمال يتميّز بطقوس أخرى، تشمل الأكلات والسهرات والألعاب النارية التي يشرع الأطفال والشباب في بيعها وشرائها أسبوعين قبل المولد، ممّا يخلق حركية مختلفة في الشوارع والبيوت.
عند مداخل الأحياء السكنية ومداخل العمارات وأرصفة الطرق، ينصب أطفال ومراهقون وشباب طاولاتٍ صغيرة يضعون عليها "لوازم المولد"، التي تتراوح، بحسب الشاب رابح، بين "المسالم"، مثل الشموع والقناديل و"الدّربوكة"، آلة إيقاعية تستعملها البنات عادة، في أغانيهن المولدية منها "هاو جا مولودينا/ يفرح بينا/ مكة والمدينة/ صلّو عليه"، والعنيف الذي يشمل المفرقعات.
تتراوح المفرقعات بدورها، بين الخفيف الذي يُحدث صوتًا بسيطًا، ويمكن حتى للطفل الصغير جدًّا أن يفجّره، والثقيل الذي يحدث دويًّا يهزّ الجوارح والجدران، ويختصّ به المراهقون والشباب، لأنه يتطلّب قوّة وشجاعة خاصّتين، ولهم في ذلك مباريات وتنافسات، قد تتعدّى عتبة اللعب والاحتفال، إلى عتبة الإصابة والاعتداء.
يقول الشاب رابح إن المولد النبوي يشكّل فرصة للشاب الجزائري "البطال"، لأن يتدبّر فيها مصروفًا. ويوضح: "يشرع التجار في استقدام كميات كبيرة من المفرقعات، شهورًا قبل المولد، من الصّين خاصّة، ويقومون بتوزيعها على تجار الجملة، الذين يبيعونها بدورهم لنا، إذ يكون الواحد منا قد تدبّر مبلغًا خاصًّا بذلك". يضيف: "لقد رهنت والدتي قطعتين ذهبيتين وأعطتني المبلغ، على أن أعيده إليها بعد المولد، راجيًا أن أتمكن من بيع الكمية كلها، فأنا مستعد لعدم الربح، لكنني لست مستعدًا لأن أخسر رأس المال، لأن ذلك سيضعني في حرج مع والدتي".
ويعترف الشاب ياسين أنه يخصّص مبلغًا كبيرًا يشتري به كميات كبيرة من المفرقعات، ومن لوازم المولد الأخرى من تاجر جملة معيّن، "ثم أوزعها على شباب بطالين أعرفهم، إما مقابل أجرة يومية، أو مقابل اقتسام الأرباح، على أن أسترجع رأس المال"، ويلفت الانتباه إلى أن حماس الشباب لا يأتي في مسعى اكتساب مال ينفقونه على حاجاتهم المختلفة فقط، بل إن كثيرًا منهم يفعل ذلك حتى يستطيع أن يضمن قضاء رأس السنة في تونس أو في مدينة جزائرية ما، ذلك أن المولد النبوي يسبق رأس السنة الميلادية بثلاثة أسابيع فقط.
يزدهر بيع المفرقعات والألعاب النارية في الجزائر خلال الاحتفال بمولد النبي محمد وهذا الطقس يثير جدلًا واسعًا
اقرأ/ي أيضًا: حلوى المولد النبوي في مصر.. "خليها ذكرى"
هذا ما أكده لنا هارون، أحد الشباب الذين يتعامل معهم ياسين. يقول: "لجأت إلى صديقي ياسين لأنني لا أملك رأس مال يؤهلني لأن أستقلّ بنفسي، وهي المرة الثالثة التي أفعل فيها هذا، وقد خصّصت الأرباح في السنتين الماضيتين لقضاء رأس السنة في مدينة سوسة التونسية". وعن مدى الإقبال على سلعته يقول: "لقد باتت المفرقعات ولوازم المولد طقسًا عامًّا، ولا يملك الأب الجزائري قدرة على أن يجهض رغبة أطفاله في أن ينخرطوا في هذا الطقس. إن الأب الذي يملك أربعة أطفال مثلًا، ملزم بأن يتدبّر مبلغًا في حدود 100 دولار أمريكي".
بين أصوات الدّربوكة والمفرقعات، لا يستطيع الرّاغب في النوم أن ينام، في الفترة الممتدّة ما بين الثامنة صباحًا ومنتصف الليل، طيلة الأسبوع الذي يسبق ليلة المولد، أمّا خلالها، فإن هذه الأصوات لا تنقطع حتى مطلع الفجر. وتزداد حدّتها نتيجة تنافس البيوت والأحياء في إطلاق أكبر عدد من المفرقعات وأقواها.
التقينا أكثر من شخص مصاب بفوبيا المفرقعات، منهم سعيدة، طالبة الحقوق في جامعة بومرداس. "أعتبر هذا الطقس عنفًا غير مصنّف في قائمة الأفعال الإرهابية، وأنا أعزل نفسي في غرفتي الجامعية، لأنه سيغمى علي إن حدث أن فجر أحدهم مفرقة أمامي، ذلك أن بعض المتهورين باتوا يغازلون البنات بأن يرموا المفرقعات في وجوههن". تشرح: "لقد تضاعفت جرعة العنف لدى الشاب الجزائري، وسوء استعماله للمفرقعات في المولد النبوي أحد الأدلّة على ذلك".
وتساءلت طالبة الحقوق: "لماذا يفهم قطاع واسع من الجزائريين الاحتجاج على هذه المظاهر العنيفة على أنه قلة احتفاء بنبي الإسلام؟ هل يحتفل المسيحيون بمولد عيسى بهذا الشكل؟ إلى متى نصرّ على أن نشرعن العنف الراسخ فينا، بتغليفه بحماسنا الديني؟ ثم لماذا تسمح الحكومة لـ"أشرار" الاستيراد، بأن يستوردوا هذا النوع العنيف من المفرقعات، رغم أن مستشفياتها تستقبل سنويًا أعدادًا كبيرة من ضحاياه".
قادنا هذا الهاجس إلى مستشفى بودواو، 38 كيلومترًا شرقًا، فاعترف لنا المكلف بالاستقبال بأن إدارة المستشفى، انطلاقًا من التجارب السابقة، أخذت احتياطاتها مقدّمًا، إذ سبق لها أن استقبلت حالات ناجمة عن سوء التعامل مع المفرقعات. ويوضح: "عادة ما تشمل الإصابات العيون والأصابع والوجه، خاصّة لدى الأطفال".
اقرأ/ي أيضًا: