في مثل هذا الوقت قبل عام ونصف، سكب خالد (اسم مستعار) الكاز على جسده ثم هم بإشعاله إلا أن قداحته لم تعمل، منقذة إياه من موت محقق وموفرة دقائق ثمينة استغلتها عائلته لإنقاذه. علل خالد محاولته الانتحار بسوء أوضاعه المعيشية التي فاقمتها جائحة كورونا، وشعوره المستمر بالعجز أمام احتياجات عائلته، إذ إن الوباء وما ترتب عليه من إغلاقات أثر بادئ الأمر وبشكل كبير على عمال المياومة، ومن بينهم خالد.
معن العبكي: حالات الانتحار ومحاولة الانتحار بالذات تعد من الحالات الأكثر افتقارا للتوثيق في الأردن
مر ما يزيد عن العام على محاولة خالد الانتحار، في هذه الفترة لقي دعمًا ماديًا ونفسياً من إخوته، الأمر الذي جعله قادرًا على التعامل مع أعراض الاكتئاب الحاد التي تصيبه بشكل مستمر، على حد وصفه، من دون الحاجة إلى زيارة طبيب نفسي أو إلى تبليغ الجهات الأمنية عن محاولة الانتحار أصلا، إذ آثرت العائلة "لفلفة" الموضوع وعدم التبليغ عن حالة خالد خوفًا من الوصمة.
أعاد انتحار شاب سوري لاجئ في الأردن مؤخرًا مسألة الصحّة النفسية وظاهرة الانتحار وأسبابها إلى واجهة الحوار العام، على الرغم من التحفّظ الرسمي والاجتماعي الكبير عند التعاطي مع المسألة. تناولنا في التراصوت تفاعل الأردنيين مع حوادث الانتحار أو محاولات الانتحار، في هذا التقرير الذي يمكن قراءته عبر هذا الرابط.
يمر الكثيرون من الأردنيين بتجارب مشابهة لتجربة خالد على الرغم من الاختلافات التي يمكن أن تكمن في تفاصيل كل تجربة، وعلى الرغم من أن الأعداد الفعلية لمن يمرون بتجربة محاولة الانتحار غير معلومة، بسبب ضعف منظومة التوثيق ولأسباب اجتماعية متصلة بالوصمة ضمن أسباب أخرى كما يؤكد الدكتور الأخصائي في الطب النفسي ومعالجة الإدمان معن العبكي، إلا أن الأرقام التي نشرتها إدارة المعلومات الجنائية في تقريرها الأخير عام 2021 تشير إلى زيادة تقدر بـ 45.69% في جرائم الانتحار المسجلة، إذ قفزت من 116 حالة عام 2019 إلى 169 حالة عام 2020، وذلك بعد أن كانت قد انخفضت عام 2019 بنسبة 18.31% مقارنة بالعام الأسبق.
محاولات انتحار على قائمة الانتظار
ينوه الدكتور العبكي إلى أن محاولات الانتحار تنقسم من ناحية دوافعها ونتائجها إلى نوعين أساسيين: الأول ينتج عن رغبة الشخص بلفت الانتباه بفعل بعض أنواع الاضطرابات الشخصية، وهي لا تهدف في الأغلب لإنهاء الحياة، إنما لإيذاء النفس بالدرجة الأولى من أجل لفت الانتباه، وذلك على العكس من النوع الثاني من محاولات الانتحار، والتي تقصد إنهاء الحياة.
ويقدر نائب رئيس جمعية الأطباء النفسيين الدكتور علاء الفروخ أن ما بين 5 إلى 10% من الأردنيين يعانون من اضطرابات نفسية على رأسها الاكتئاب بنوعيه الحاد والعادي، وذلك وفقا لحسابات تقريبية تجريها الجمعية اعتمادا على توصيات منظمة الصحة العالمية وإحصائياتها، وهو ما يعني أن ما بين حوالي 530,000 إلى حوالي مليون ونصف أردني يعانون من اضطرابات ومشاكل نفسية، وهي أرقام مروعة إن علمنا أن معظم حالات محاولة الانتحار التي تصل إلى المركز الوطني للصحة النفسية، الذي يتعارف عليه باسم مستشفى الفحيص، كانت تعاني من الاكتئاب الحاد بالدرجة الأولى، بالإضافة إلى حالات أخرى تعاني من الشيزوفرينيا، حسب ما يقول المستشفى.
أما بالنسبة لعام 2020 الذي يعتبر عاما استثنائيا بفعل جائحة كورونا، فتشير دراسة أجراها مركز نماء للاستشارات الاستراتيجية، استطلعت آراء حوالي 2000 أردني، إلى أن حوالي 74% من المستطلعة آراؤهم يعتقدون أنهم يعانون من مشاكل نفسية بفعل الجائحة.
وتشير الدراسة إلى أنه على الرغم من ارتفاع نسبة من عانوا من أعراض عادة ما ترتبط بالإصابة بالاكتئاب، مثل زيادة الغضب والتوتر والشعور بالحزن والاكتئاب وانعكاس كل ذلك على العلاقات الأسرية، إلا أن معظم المستطلعة آراؤهم أكدوا أنهم لم يزوروا مختصا بالصحة النفسية.
وفي الوقت الذي لا تزال حالات الانتحار الفعلي ومحاولات الانتحار تعاني من قصور في التوثيق، تؤكد العديد من الدراسات أن من يقدمون على محاولة الانتحار غالبا ما يكررون محاولاتهم خاصة إن لم يجدوا بيئة داعمة أو إن كانوا يعانون من الاكتئاب أو إن كانوا قد شهدوا حالات انتحار في عائلاتهم، وإن لم تتم متابعتهم أيضا بهدف علاج حالاتهم.
ضعف التشريع وغياب الإجراءات
هنا يقول الدكتور العبكي أن حالات الانتحار ومحاولة الانتحار بالذات تعد من الحالات الأكثر افتقارا للتوثيق، إذ عادة ما لا تسجل إلا إن حازت الحادثة على قدر من الاهتمام خاصة من قبل رواد مواقع التواصل الاجتماعي، في حين تتعرض العديد من حالات الانتحار الفعلي عند الطب الشرعي لمحاولات إخفاء لسبب الموت بضغوط من الأهالي في الأغلب، فالأمر يتطلب "تغيير منظومة الطب الشرعي بالكامل" إن كانت هنالك إرادة حقيقية لتوثيق البيانات المتعلقة بالانتحار بالذات.
تتعرض العديد من حالات الانتحار الفعلي عند الطب الشرعي لمحاولات إخفاء لسبب الموت بضغوط من الأهالي في الأغلب
أما محاولات الانتحار التي يتم إنقاذ منفذيها، فالإضافة إلى مشكلة ضعف التوثيق، يواجه مرتكبوها مشكلة ضعف المتابعة بعد إنقاذهم، ففي الوقت الذي يؤكد فيه الدكتور العبكي أن الأطباء النفسيين مسؤولون أخلاقيا ومهنيا عن تحويل هذه الحالات إلى المستشفى لاستكمال العلاج وتأهيلهم لعيش حياة طبيعية لا يكررون خلالها محاولة الانتحار، يشير إلى أنه لا يوجد قانون يلزمهم بذلك، كما أن الإجراء المتبع لدى الأطباء النفسيين عند مصادفة مريض يمكن أن يشكل سلوكه خطرًا على حياته، يتمثل في إبلاغ الأجهزة الأمنية التي بدورها إما أن ترسل الشخص إلى المستشفى النفسي لعلاجه، أو أنها توقفه إداريًا لمدة تتراوح بين ساعات قليلة وعدة أسابيع ثم تطلق سراحه، إذ لا توجد مادة قانونية تنص على إيقاع عقوبة بمن يحاولون الانتحار.
اقرأ/ي أيضًا:
الأردن.. انتحار لاجئ سوري يعيد النقاش حول مآسي اللجوء إلى الواجهة
بيغاسوس يصل الأردن... غضب واسع بعد الكشف عن اختراق هاتف ناشطة حقوقية بارزة
مش دافع.. أردنيون يطلقون حملة إلكترونية ضد رفع تعرفة الكهرباء