بدت صرخة تلك السيدة السورية اللاجئة في مخيمات عرسال اللبنانية "نموت في اليوم مئة مرة" هي ذاتها صرخة الملايين الآخرين في شتى أرجاء الأرض الذين "نجوا" من الهولوكوست السوري الذي لم يزل ينفذه ويواصل تنفيذه بـ"احترافية" نظام الهمج السوري. تنطوي تلك الصرخة على تشكيك تراجيدي عال وشديد الإيلام بفكرة "النجاة" التي تطال كل من لم يمت في ذلك الهولوكوست. ما الذي يجعلنا نعتقد أن تلك السيدة نجت بالفعل فيما هي "تموت مئة مرة في اليوم"!
نجا كل من لم يمت. هذه هي الفكرة الأساس التي تنطلق منها فكرة "النجاة
نجا كل من لم يمت. هذه هي الفكرة الأساس التي تنطلق منها فكرة "النجاة"، وهذه قيمة كبيرة فعلًا، إذ أنها قيمة الحياة. إلا أن التفاصيل التي يعيشها اللاجئون السوريون "الناجون" في مخيمات عرسال اللبنانية، ومخيمات الزعتري، والركبان، وغيرها كأمثلة ليست حصرية تجعل تفكيرًا من نوع: هل الناجون ناجون حقًا؟ بمحله. إذ ما قيمة الحياة على بوابات الجحيم، ما قيمة الحياة لمن يعيش في دركها الأسفل، وما قيمتها للذي يطلب "النجاة" منها هي أصلًا؟ الحياة داخل هذه التفاصيل هي موت مستمر، موت لا يتوقف... هل أن يعيش اللاجئ كل لحظة وهو يهيئ سبيلًا ما للحياة للحظة التي تليها هو نجاة حقًا؟ نتحدث هنا عمن لم يمت بعد: جوعًا، أو بردًا، أو لدغة أفعى، أو لسعة عقرب، أو مرضًا من انعدام الدواء، أو من شدة الحر، أو بعواصف رملية... فيما هم في أماكن "نجاتهم"!
اقرأ/ي أيضًا: وسيم الأسد.. لسان حال "مافيوية" السلطة
قد تكون محاولة تخيّل صورة الحياة القادمة/المستقبلية للأطفال الذين يعيشون مع ذويهم في تلك المخيمات فاشلة، وغير صحيحة مهما بلغت دقتها، إذ أنها نوع من ادعاء معرفة المستقبل، لكنها مع هذا ممكنة. ماذا سيحمل هذا الطفل من عدّة لأيامه القادمة، ما هو الأساس الذي سيبني استنادًا عليه حياته القادمة، أي ذاكرة ستكون عونًا له، وأي ذاكرة ستكون عقبة أمامه... توقّع الفعل الذي سيقدم عليه رجل المستقبل هذا وردة فعله كلاهما يقعان في صلب الموضوع من هذا التفكير: هل نجا أولئك الأطفال حقًا؟ بالإضافة إلى ذلك ستبدو، أو أنها بدت بالفعل، القيم العليا التي تتحدث عنها البشرية، والمبادئ التي تزعم الدفاع عنها، مجرد شعارات جوفاء لا طائل من ورائها، وأنه تم باسمها، ويتم باستمرار -أحيانًا كثيرة- تشريد أولئك الأطفال وذويهم ثم اعتبارهم "ناجين". سيكون سجالًا غاية في الصعوبة سيتم خوضه لإقناع الأطفال "الناجين" بأحقية تلك القيم والمبادئ.
في ألمانيا يتجه (الرأي العام السوري اللاجئ) لمقارنة الهولوكست الذي ارتكب بحق اليهود بالهولوكوست الذي ارتكبه ولم يزل نظام البراميل بحق السوريين، ولاعتبار أن العالم كما تخلى عن اليهود آنذاك تخلى ويتخلى عن السوريين الآن (أي، منذ 2011). الرأي يتجه إلى عدم الثقة بالعالم وبمبادئه وتصوراته وقيمه ومزاعمه وادعاءاته... فبماذا سيؤمن "الناجون" إذًا؟
ثمة الكثير من الصور الحارقة المحفورة في ذاكرة السوريين، والتي تبدو من شدة التصاقها بهم كأنها عضو من أعضائهم، لناجِ وحيد، وهذه واحدة من أشد الصور فظاعةً وألمًا وتشكيكًا بفكرة "الناجين": شخص وحيد نجا فيما قتلت أسرته! أب نجا وقد قُتل أطفاله وزوجته، طفل نجا وقد قُتل أبوه وأمه وأخوته جميعًا... لقد نجا من موت، وهذه قيمة عليا تجعلنا نشكر المصادفة لأجلها، ومن جانب نجا ليكون شاهدًا على المجزرة وليرويها، وهذا مفيد للتاريخ والمؤرخين، ولكن بالمقابل، هو نجا، ثم ماذا؟ بصرف النظر عن ردة الفعل التي قد يتخذها الناجي الوحيد والمفتوحة على كل الاحتمالات، والتي حتى وإن كانت إيجابية على نحو كبير، ليصبح صاحبها مثالًا ومثلًا أعلى محفّزًا لآخرين، إلا أننا هل يمكن أن نتخيل معاناته، وتصدعاته، وانهياراته... خلال طريقه ليكون مثالًا أو شاهدًا وراويًا. وليس من حقنا ولا من حق أحد أن يجيب بالنيابة عنه على تساؤل: هل أنك نجوت حقًا؟
في اليوم الأول للرحلة من تركيا إلى اليونان بالقارب المطاطي (البلم) انقلب القارب وتم إنقاذ عائلة مكونة من أب وأم وطفلهما الصغير، الوحيد. ولقسوة حياتها في تركيا آنذاك (2015) قررت العائلة إعادة المحاولة ونجحت ووصلت أوربا بعد رحلة مشي على الأقدام استمرت لأكثر من شهرين! وحتى تاريخنا هذا (2019) يبكي الطفل مذعورًا كلما شاهد نهرًا أو بحيرة أو بحرًا أو قاربًا من نوع ما، ولو على التلفزيون، ولم تزل أمه وأبوه يتحاشيان أن يرى ذلك، حتى أنهما يشاهدان معه التلفزيون طالما بقي يشاهده لئلا يرى ذلك ويصاب بالذعر... في لقاء صحفي مع الأب قال: "كان علي أن أختار: إما أن نجوع في تركيا، أو نغامر في هذه الرحلة لننجو، مع هذا ياليتنا بقينا في تركيا ولم أعرّض ابني لهذه المحنة المستمرة رغم كل الإجراءات النفسية التي اتُخذت".
شخصيًا، لم أتجرأ، وربما لم أمنح نفسي الحق في توجيه سؤال إلى الأب: هل تعتبر نفسك ناجيًا فعلًا؟ ثمة من "نجا" خلال هذه الرحلة، وغيرها الكثير، لكن بعد فقد أحد أفراد الأسرة.
هل كان من الأفضل أن ينجو بعضنا على الرغم من كل ظروف النجاة القاسية، أم أن نموت جميعًا؟
سيبدو الحديث عن "الناجين"، لاجئي أوروبا، والصراع اليومي الذي يعيشونه لدى محاولتهم "الاندماج" في المجتمع المضيف، وصراعهم (لإثبات إيجابيتهم) ودحض الصورة النمطية المرسومة مسبقًا عنهم، وصراعهم لنفي (الاتهام) الجاهز والموضوع تحت الأيدي بأنهم وراء كل عملية إرهابية يمكن أن تحدث، وصراعهم ضد عنصريين ويمينيين متطرفين معادين للاجئين محتملي الظهور دائمًا، وقلقهم المترافق مع شعورهم بالعجز أمام احتياجات أهلهم في الداخل السوري... سيبدو هذا الحديث ترفيهًا بالمقارنة مع أوضاع اللاجئين في مخيمات الجوار، لذلك سأتجاوزه مضطرًا.
اقرأ/ي أيضًا: إمارة الجولاني بتوقيت إدلب
على نحو ما يمكن القول: لا أحدَ ناج، ولا أحدَ سينجو. والحديث الذي يصل إلى سؤال من نوع: هل كان من الأفضل أن ينجو بعضنا على الرغم من كل ظروف النجاة القاسية، أم أن نموت جميعًا؟ حديث خاطئ برمته. الحديث الصحيح الذي تصدقه الوقائع التاريخية لحركة الناس، أن هؤلاء الناجين، ولأنهم نجوا، وبسبب نجاتهم، سيعيدون دورة الحياة إلى مسارها الصحيح، طال الزمن أم قصر. إن نجاتهم هذه سبب إضافي، بل سبب كاف كي لا يظن المتوحشون، أمثال نظام الهمج السوري وحلفائه في هذا العالم، أنهم ارتاحوا، بل بسبب أن هؤلاء الناجين لن يرتاحوا أبدًا.
اقرأ/ي أيضًا: