06-أكتوبر-2024
نازحون في بيروت-إكس.jpg

(منصة إكس) نازحون في بيروت

خلال فترة زمنية قصيرة نزح ما يزيد على مليون وخمسمئة ألف لبناني من الجنوب والبقاع الغربي والبقاع الشمالي وضاحية بيروت الجنوبية، بسبب العدوان الإسرائيلي المتوحّش الآخذ في التصاعد مع استمرار العمليات الجويّة وبدء العمليات البريّة، حيث وجّهت قيادة العدو تحذيرات إلى معظم القرى جنوب الليطاني بإخلائها فورًا، وكذلك بالنسبة إلى الضاحية الجنوبية لبيروت.

في بداية تصاعد العدوان، منذ أسبوعين، حاول بعض سكّان تلك المناطق استئجار شقق في أماكن يُفترض أن العدوان لن يطالها. ارتفعت الإيجارات بشكلٍ كبير نتيجة ارتفاع الجشع، حيث تمّت مطالبة المستأجر بدفع 6 أشهر مقدمًا أو سنة أو أكثر!

أخبرني أحد الأصدقاء، وهو يعمل ناظرًا في إحدى الثانويات الرسمية، أنه حاول استئجار شقة لزميله وعائلته الذين نزحوا من الجنوب، فاصطدم بجشع السماسرة الذين يستغلون وضع النازحين من دون علم أصحاب الشقق في الكثير من الحالات! كما أخبرني صديق لي يعيش في إفريقيا أنه حاول إخراج أهله من الجنوب إلى منطقة آمنة فتعرّض للخداع رغم دفعه مبلغًا كبيرًا.

وجد كثير من النازحين أنفسهم يفترشون الطرقات والحدائق العامّة والكورنيش البحري بسبب غياب - أو تغييب - خطّة للإيواء والتي كان من المفترض أن تكون جاهزة منذ سنة بفعل العمليات القتالية الجارية منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر الماضي على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. ربما ظنّ بعض المسؤولين أن الأمور ستبقى على ما هي عليه ولن تتطور، وربما ظنّ آخرون أن هذه الحرب دائرة بين "فئةٍ" من اللبنانيين وبين إسرائيل فلم يكترثوا. أمّا بعضهم الآخر، فيبدو أنه يراهن على المساعدات الدولية فقط!

كل هذا الألم لم يمنع النازحين من الحلم بالعودة والبدء من جديد، متشبثين بالأمل رغم كل الظروف

 

مراكز الإيواء الرئيسية هي المؤسسات التربوية (المدارس الرسمية، وبعض الكليّات الجامعية أو المهنية)، وهذه المراكز المجهّزة لاستقبال الطلاب، الذين لا يعرفون مصير عامهم الدراسي حاليًا، غير مجهّزة لإستقبال كل تلك العائلات التي فرّت بأرواحها تاركةً كلّ ما تملك خلفها. وعملية تجهيزها بالوسائل البدائية للحياة (فراش، حرام، مخدات) اصطدمت بجشع التجّار، حيث ارتفعت أسعار هذه الحاجيات بشكل كبير (ما يزيد عن 100 في المئة)، وضعف التمويل واقتصرت على مبادرات القوى السياسية والمجتمعية والفردية في أماكن النزوح.

لم يقتصر الفشل في التخطيط والتنفيذ والتمويل على إيجاد وتجهيز مراكز الإيواء، بل تعدّاه إلى تأمين الحاجيات الأساسية من ماء وطعام ودواء، والتي يجري تأمينها حاليًا من قبل الأهالي والجمعيات الأهليّة بصورةٍ رئيسية، في انتظار توزيع المساعدات الدولية التي بدأت تصل من بعض الدول العربية والأوروبية.

هذا الفشل في التخطيط رافقه الألم الذي يعيشه النازحون بفعل فقدانهم لأفرادٍ من عائلاتهم وفقدانهم لبيوتهم وممتلكاتهم فعل النزوح ذاته والتشرّد.

أخبرني أحد النازحين أنه كان ينتظر بداية موسم قطاف الزيتون الذي يعتمد عليه بشكل رئيسي في معيشته، حيث قال: "راحت الأرض وراح الموسم واحترق الزيتون".

حكايات كثيرة يرويها النازحون، فمعظمهم ترك جنى عمره خلفه وهرب نحو المجهول، فهذا قد ترك أبقاره – التي تشكّل رأسماله - في أمانة بعض من تبقى في القرية، وهو يدعو ليلًا نهارًا ألّا تموت. وذاك ترك قطيعًا من الماعز شاردًا بين التلال لا يعرف عنها شيئًا، وآخر ترك معدّات زراعية كان قد اشتراها ليبيعها مع بداية الموسم وهو شبه متأكد بأنه سيتم قصفها، وذاك ترك مقصًّا للحجر كان قد استدان ليشتريه ولم يسدد الدين إلى الآن، وذاك فتح برادًا يملكه ووزّع ما فيه من فواكه كيلا تتعفن.. حكايات كثيرة يرويها أولئك النازحون المفجعون بكل ما يجري.

أخبرني أحد النازحين من قرية مجاورة أن جميع سكّان القرية نزحوا سوى عجوز ناهزت السبعين من عمرها رغم إلحاح أولادها وجيرانها. رفضت وبقيت: "إذا كان مكتبلي موت فمش رح موت إلّا ببيتي.. الله معكن".

يتخوّف النازحون من أن تطول هذه الحرب ويأتي فصل الشتاء، فالكثير منهم لم يحملوا معهم سوى الثياب التي عليهم، وتأمين مستلزمات الشتاء سيكون صعبًا في ظل الانهيار المالي والاقتصادي الذي نعيشه في لبنان، فمن سيقوم بتأمين أدوات التدفئة ومن سيقوم بتعبئة المازوت لتلك المراكز الكثيرة؟!

الخوف لا يقتصر على النازحين، فالناس تتخوّف من أن تتوسّع دائرة الحرب لتشمل أماكن جديدة، مما سيزيد أعداد النازحين ويشكّل ضغطًا أكبر على المدن والقرى المستضيفة، والتي قد تجد نفسها في لحظةٍ ما مضطرة إلى النزوح!

الاحتضان الشعبي الذي حصل هذه الفترة – رغم بعض الاستثناءات والخروقات - يعطي بعض الأمل بأن الدنيا ما زالت بخير، رغم كل هذه النكبات المتتالية وهذا الإجرام المتوحّش الذي يمارسه العدو الصهيوني. الأمل بأن كل هذا سوف ينتهي وبأن الناس سوف تعود لتبني بيوتها وتنفض رماد الدمار وتبدأ من جديد.

الأمل ما زال يعيش في هذه الأرض رغم كل النكسات والنكبات المتتالية.