29-سبتمبر-2024
كاريكاتير لـ أحمد رحمة/ تركيا

إسرائيل تعربد من حولنا قتلًا وتدميرًا بلا حساب. تنقل قواتها وطائراتها من غزة إلى لبنان. تتصرف كأنها ربٌّ أعلى يقرّر من يحيا ومن يموت، وكيف يحيا وكيف يموت. ترى في نفسها القوة المطلقة التي تقرّر مصائر منطقة وشعوب، في تكرار لممارسات استعمارية شهدنا شبيهاتها عبر التاريخ، وإن كان فينا من لا يريدون النظر لقرن كامل من الصراع، فيمكنهم على الأقل مراجعة أحداث حرب الإبادة التي تجري منذ سنة.

ما يزيد القهر قهرًا ويُثقل ظهورنا بالعار هو أن نجد بيننا من يختزل التضامن مع لبنان في دعم حزب الله أو محور إيران، وكأن التضامن لا يصح إن لم يكن موجهًا لفصيل أو عقيدة.

يُذكّرنا هذا المنطق السخيف بما حدث في عام 2003 حين ارتفع صوت التضامن مع العراق ضد الغزو الأميركي، وكان هناك من يقول: "أتتضامنون مع الطاغية صدام حسين؟". الرد كان واضحًا: التضامن هنا مع العراق.

وإذا كنا رفضنا الدمج بين شخص وبلد، ولم نرضَ باختزال التضامن مع العراق في دعم النظام، لماذا لا نجد اليوم الكلمات المناسبة لتسجيل موقف إنساني، وهذا أضعف الإيمان، لصالح لبنان؟

وعلى هذا فإن التضامن مع لبنان يعني الوقوف مع الشعب، مع الأطفال، مع الأحياء المدمرة، مع النازحين المطرودين من منازلهم بالنار والدخان، وليس دعمًا لشخص أو نظام. التضامن وقفة مع كل أب وأم وطفل يعانون، مع كل حياة معرضة للفناء بلا ذنب، بعيدًا عن أية أجندة سياسية أو طائفية، لأن الوقوف في صف المقهورين موقف ضد الظلم أينما كان وضد أيّ كان.

حين تستغل إسرائيل الاصطفافات الطائفية فهي تسعى لإضعاف الجبهة الداخلية، مما يتيح لها استمرار في سياساتها العدوانية دون جبهة متحدة تواجهها

حين تستغل إسرائيل الاصطفافات الطائفية فهي تسعى لإضعاف الجبهة الداخلية، مما يتيح لها استمرار في سياساتها العدوانية دون جبهة متحدة تواجهها. وهذه يجب أن توضع في رأس قائمة البديهيات.

يُلغي اختزال لبنان إلى مجموعة أو أشخاص بعينهم حقيقة أنه بلد يذخر بالتنوع الاجتماعي والديني والفكري، ويمتاز بجماليات إنسانية فريدة لا نظير لها في محيطه الجغرافي.

نعم لبنان يعاني من إشكاليات عسيرة، نعم لبنان منهك. تتجذر مشكلته في تركيبة نظامه الطائفي الذي يعود إلى التنوع اللبناني نفسه، والذي استغلته القوى الخارجية لتعزيز نفوذها فيه وعليه، كما يقول كمال الصليبي. ثم تطوّر هذا النظام الطائفي في السياق الحديث مُعزِّزًا التقسيم، ليصبح هذا النظام عاجزًا عن تلبية طموحات اللبنانيين، كما يرى فواز طرابلسي.

الثقة كبيرة في أن لبنان سيعبر، رغم هذه الأزمات القديمة والمعاصرة، ليصل نحو صيغة ترتكز على المواطنة والعدالة الاجتماعية، بعيدًا عن قيود الطائفية والانقسامات، ليغدو وقتها نموذجًا للمنطقة كلها.

نحن في وقت عصيب. كل ما فيه يشبه أزمنة الحروب الصليبية، إذ عصفت بهذه الجغرافيا انقسامات مخيفة، ويمكن لأي أحد العثور على العديد من التشابهات مع التشرذم والتفكك الذي عاشته المنطقة وقتها، حين تحالف البعض مع الغزاة على حساب شعوبهم، وها نحن نرى اليوم تحالفات تُعيد مشهد العار مجددًا.

انحرف هذا الحاكم على ذاك، ومالت تلك المدينة لخيار ضرب مدينة أخرى، في تفاهمات مخزية ومشينة مع من أكلوا لحوم البشر في شمالي سوريا وملأوا شوارع القدس بالدماء.

يتغيّر الزمن وتظل الوحشية تقدم النماذج ذاتها. يقول محمود درويش: "قد يكون التقدم جسرَ الرجوع إلى البربريَّة". إذن لا فرق بين نتنياهو وجودفري دي بويون، ولا مجال للمبالاة بالفروق الطفيفة بين بن غفير ورينالد دي شاتيون "أرناط"، ويمكن تشبيه فرسان الهيكل بالوحدات الخاصة في جيش الاحتلال، وكلهم يتصرفون على أساس امتلاك حقّ في ترتيب المنطقة على مزاج مصالحهم، وأما الشعوب الموجودة فمجرد حشرات تداس بلا رحمة أو التفات.

عُقدت هذه التشبيهات مرارًا في المسلسلات التلفزيونية والمحاضرات والمقالات، إلا أننا لم نتخيل يومًا أن نراها بهذا الشكل الوقح، إذ تتجسّد في مزج الشناعة والطائفية والموت ضمن مشهد من أشد ما عرفناه قتامة.

ما نعرفه جيدًا أنه، مهما حاولت إسرائيل نشر الموت والرعب، ومهما تآمر المتخاذلون وتخلوا عن إنسانيتهم، فإنّ من يقف في وجه الظلم والاستبداد ويدافع عن الحرية والكرامة، هو من سيبقى. فمشاريع الباطل التي تقوم على القهر والاحتلال والظلم محكوم عليها بالزوال.

عاش لبنان وليسقط أعداؤه وكارهوه. سيكون ما يجب أن يكونه حرًا بعيدًا عن قيود الاحتلال والطائفية والانقسامات.