11-يناير-2021

تمتلك النظرية النقدية قدرة على التغيير والابتكار

لربما تساءلنا مرارًا عن السرّ الذي يجعل من الغرب منتجًا وحيدًا، أو شبه وحيد للفلسفة والنظريات النقدية والأدبية وغيرها، وهل لا يوجد فعلًا شعب في أنحاء الأرض قادر على إنتاج نظريات غيره، أو إنه أنتجها حقًا ولم تصلنا أو لم نعلم بها؟ وإذا علمنا فإنها لا تنتشر ولا تكون مؤثرة، الأمر الذي يبقيها منطرحة، كجثة، في الكتب! قد يكون منتجو تلك النظريات، أو بعضها يتحدرون من أصول ليست غربية، لكن سريانها وتعميمها لا يحدث إلا في الغرب وانطلاقًا منه، أو إلا إذا تبناها.

لا يرى فوكو السلطة فرضًا من الخارج، إنما سيل يخترق مفاصل المجتمع كله، فتكون المعرفة هنا سلطة أيضًا

خلال التفكّر في هذا الأمر لا بد لنا من أن نتذكر العلاقة بين المعرفة والسلطة التي كشف عنها ميشيل فوكو، واعتبر أن المعرفة حاجة السلطة، بوصف السلطة قوة وهيمنة، وضرب مثالًا أن الهندسة الإقليدية كانت حاجة للسلطة الإغريقية خلال تأسيسها كسلطة! لا يعني ذلك أن السلطة السياسية هي التي أسّست تلك المعرفة، أو أرغمت الفلاسفة والعلماء على تأسيسها، فمفهوم السلطة عند فوكو يختلف عما هو عليه عند غيره من الفلاسفة عمومًا، كماركس، فهو لا يراها فرضًا من الخارج (السلطة السياسية مثلًا)، إنما سيل يخترق مفاصل المجتمع كله، فتكون المعرفة هنا سلطة أيضًا. من هذه الزاوية يمكن النظر إلى الغرب بوصفه محتكرًا للمعرفة ومحتكرًا تعميمها ونشرها ونسبتها إليه، فهي المعرفة التي يحتاجها للهيمنة باعتباره السلطة التي أخضعت العالم على امتداد العصر  الحديث من خلال الاستعمار أولًا، ومن خلال احتكار تفسير نفسه، وتفسير العالم، وتفسير الاختلاف بين بني البشر تاليًا.

اقرأ/ي أيضًا: باختصار شديد.. ماذا تعني "ما بعد الحداثة"؟

نتذكر هنا أن إدوارد سعيد، على سبيل المثال، في مقالته "فرويد وغير الأوروبيين" يعتبر أن ثقافة فرويد مطبوعة بالمركزية الأوروبية، وأن الآخر بالنسبة له هو المرتبط بالتدنيس والطّهر وسفاح القربى... وباقي مفردات (البدائية). ‏فوجود الآخر في الخطاب الغربي قوي، إلا أنه محتوىً ومسيطَرٌ عليه، ويقع ضمن إطار ما يمكن تسميه بالتجربة المدهشة، كعلاقة الاستشراق مع الشرق. فالخطاب الشرقي حاضر في الثقافة الغربية بقوة، لكنه ليس أكثر من كونه "أفقًا تفسيريًا للاختلاف" وفق تعبير هومي بابا، بمعنى أنه ليس موجودًا بذاته، بل بوصفه العنصر الذي يمكن استخدامه لمعرفة الاختلافات بين بني البشر. وإن شرط معرفة هذا الاختلاف هو المصادرة على الآخر، فالمستبد التركي عند مونتسكيو، واليابان عند رولان بارت، والصين عند جوليا كريستيفا، وهنود النامبيكوارا عند ديريدا... ليسوا سوى جزء من استراتيجية الاحتواء تلك؛ حيث يبقى النص الآخر مجرد "أفق تفسيري للاختلاف" دون أن يكون فاعلًا، وبذا يفقد قدرته على التدليل والفاعلية ويُنفى.

يتساءل هومي بابا فيما يتعلق بالنظرية النقدية الجديدة (السيميائية، ما بعد البنيوية، والتفكيكية، إلخ....) "أتكون اهتماماتها متواطئة بالضرورة مع الدور المهيمن الذي يلعبه الغرب بوصفه كتلة قوة؟"، أتكون لغة النظرية مجرد مناورة من مناورات النخبة الغربية المتميزة ثقافيًا تقدم من خلالها خطابًا عن الآخر يعزز معادلة القوة­-المعرفة وفق تعريف فوكو الخاصة بها؟ ويرى أن ذلك وارد، بل حقيقي. فالنظرية النقدية تتواءم مع نصوص تنتمي إلى تقاليد الأنثربولوجيا الكولونيالية، وذلك إما لكي تضفي طابعًا كونيًا على هذه النصوص وتدرجها ضمن خطابها الثقافي الخاص، أو لكي تشحذ نقدها للمركزية الأوروبية، إنما ليس لإحلال نص الآخر ضمن نسيج تلك الثقافة، بل لتهيمن عليه، وتحتوي آثار الاختلاف الثقافي الذي يظهر رغمًا عنها أثناء قيامها بتلك العملية..

التجاذب في النظرية النقدية بين احتوائها المؤسساتي وقدرتها على المراجعة، يطيح بفكرة كونها غربية مركزية، ويكفل ظهور­ منطقة أخرى تنشأ فيها ثقافة الآخر

من جانب آخر، تمتلك النظرية النقدية قدرة على التغيير والابتكار، فإضافة ألتوسير على الماركسية، والموقع الذي يضع فيه لاكان دالّ الرغبة عند تقاطع اللغة والقانون، كذلك أركيولوجيا فوكو الخاصة بظهور الإنسان الغربي الحديث، تدفع العلوم الاجتماعية (المصاغة صياغة مركزية غربية) لأن تواجه محدودياتها التاريخية، الأمر الذي دفع فرانز فانون لأن يعتبر أن قراءة "آخر" لاكان أشد أهمية، في الشرط الكولونيالي، من القراءة الماركسية لديالكتيك السيد-العبد. ‏

اقرأ/ي أيضًا: في إشكاليات إنتاج المعرفة.. عن مقال "الداخلي" لجون بيار دي ساردون

هذا التجاذب في النظرية النقدية بين احتوائها المؤسساتي وقدرتها على المراجعة وإعادة النظر، يطيح بفكرة كونها غربية مركزية من جانب، ومن جانب آخر يكفل ظهور­ منطقة أخرى تنشأ فيها ثقافة الآخر؛ هي منطقة الهجنة التي أسسها ويوالي تأسيسها المهاجرون واللاجئون والمقتلَعون... إلا أن إعادة النظر في تلك النظرية النقدية يكون على أساس "الاختلاف الثقافي"، لا التنوع أو التعدد الثقافي، على اعتبار أن الاختلاف الثقافي هو الذي يؤرّخ لنطق الهجنة، نطق المهاجر واللاجئ والمقتلع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"بشرة سوداء.. أقنعة بيضاء" لفرانز فانون: عن كتاب لا يزال مظلومًا

رينيه ماران.. أولى الصرخات الأفريقية في وجه الاستعمار