09-مايو-2024
مكتبة العالم، كتاب الموتى

دوَّن المصريون القدماء في الكتاب خلاصة تصوراتهم عن الموت والعالم الآخر (الترا صوت)

لأن القراءة ترحالٌ، والكتبُ أسفارٌ وقارات، فلتكن زاوية "مكتبة العالم" من "ألترا صوت" رحلةٌ في هذه الأقاليم، حيث نقف في كل أسبوع مع كتاب يمثّل ثقافة/حضارة ما.  


للمصري القديم تصوراته المتمايزة والفريدة تجاه أشياء ومفاهيم عديدة، أشدها غرابةً ولفتًا للانتباه الموت الذي فاق اهتمامهم به الاهتمام بأي شيء آخر لكونه، في اعتقادهم، نقطة عبور نحو عالمٍ آخر تسكنه الآلهة وينعم فيه المتوفى بحياة أبدية خالدة.

لكن العبور نحو العالم الآخر كان يتطلب طقوسًا معينة ونصوصًا فريدة في مضمونها ومعانيها ستشكل، فيما بعد، ما يُعرف اليوم بـ"الأدب الجنائزي المصري"، الذي يشمل كتبًا عدة أهمها على الإطلاق "كتاب الموتى: الخروج للنهار".

الكتاب واحدٌ من بين كتبٍ كثيرة دوَّن المصريون القدماء فيها خلاصة أفكارهم حول الموت وتصوراتهم لشكل العالم الآخر وأسفار المتوفَّى في أقاليمه

دوِّنت نصوص الكتاب على أوراق البردي خلال الفترة الممتدة من عصر الدولة الحديثة (بين القرن السادس عشر والقرن الحادي عشر قبل الميلاد)، وصولًا إلى العصر البطلمي (بين القرن الرابع والقرن الأول قبل الميلاد). وقد اكتُشفت في عام 1821 على يد علماء الحملة الفرنسية.

وبعد نحو عقدين على اكتشافها، اختار عالم المصريات الألماني كارل ريتشارد ليبسيوس من "كتاب الموتى" عنوانًا لهذه النصوص التي تُرجمت إلى لغاتٍ مختلفة منذ أواخر سبعينيات القرن التاسع عشر، ومنها العربية التي نقلها إليها فيليب عطية عن اللغة الإنجليزية، وأصدرتها "دار مدبولي" في عام 1988.

وفي عام 2003، نشر المترجم المصري شريف الصيفي ترجمته لكتاب الموتى عن اللغة الهيروغليفية مباشرةً تحت عنوان "الخروج في النهار"، وهو العنوان الذي أطلقه المصريون القدماء على هذه النصوص. وقبل أربع سنوات، أعادت "دار تنمية" في القاهرة إصدار طبعة جديدة من هذه الترجمة ولكن تحت عنوان مختلف هو "الخروج للنهار".

وقد برر المترجم المصري أسباب حذفه لحرف الجر "في" بقوله: "قررت تغيير حرف الجر في الترجمة العربية ليتغير المعنى من كونه خروجًا في نهار يوم الدفن إلى الخروج للنهار، حيث الميلاد من جديد، وبذلك يتطابق العنوان أكثر مع مضمون النص".

حماية المتوفَّى ورعايته حتى بلوغ الخلود

تُعبّر نصوص "كتاب الموتى" عن تصوّر المصري القديم للعالم والموت، وهو تصوّرٌ مبنيٌ على أسطورة موت الإله أوزوريس، التي جعلت من الموت لدى المصريين القُدماء روايةً ظلَّوا يكتبون فصولها حتى أفول حضارتهم. روايةٌ أبطالها الموتى، ومسرحها عالمٌ موازٍ للحياة الدنيا يُبعثون فيه أحياء بعد وفاتهم.

ولذلك لم يكن الموت لدى المصريين القدماء نقيضًا للحياة وإنما بوابةً للعبور نحو العالم الآخر. لذلك، عبَّروا عن هذه التجربة بعباراتٍ تُشير إلى أن المتوفَّى لا يزال حيًا في مكانٍ ما، منها: "خبي" بمعنى ذهب واختفى، و"وني" بمعنى ذهب وعبر، و"ودجا" بمعنى الرحيل إلى هناك.

لكن إيمان المصريين القدماء بوجود عالمٍ أبديٍ ينعم فيه المتوفَّى بالخلود، يُلازمه إيمانٌ آخر بصعوبة الوصول إليه. فالموت، كما يظهر في نصوص الأدب الجنائزي المصري، بداية رحلةٍ يواجه فيها المتوفَّى مخاطر كثيرة قد تمنعه من الوصول إلى ذلك العالم. من هنا، من الحاجة إلى وجود ما يُساعد المتوفَّى على بلوغ وجهته، ولدت نصوص "كتاب الموتى".

الكتاب واحدٌ من بين كتبٍ كثيرة دوَّن المصريون القدماء في نصوصها خلاصة أفكارهم حول الموت، وتصوراتهم لشكل العالم الآخر وأسفار المتوفَّى في أقاليمه. فكتّابه كهنةٌ صاغوا نصوصهُ على شكل ترانيم ومدائح وصلواتٍ وابتهالاتٍ وتعاويذ تُرشد المتوفَّى إلى طريق الخلود وترعاهُ حتى يبلغهُ.

لكنها، في زمنٍ آخر، تبدو قصةً من قصصهم الكثيرة حول الموت. فكلُّ نصٍ من نصوص الكتاب حكايةٌ يواجه فيها المتوفَّى شرور العالم الآخر متسلحًا بما يعرفه من تعاويذٍ كانت تُكتب على تابوته، أو تُقرأ على أقمشةٍ توضع أسفل رأسه أو في أذنيه، وأحيانًا على قلاداتٍ توضع حول عنقه.

لم تكن وظيفةُ نصوص "كتاب الموتى" حماية المتوفّى ورعايته فقط، إذ هناك نصوصٌ تُعيد له أعضاءه، وأخرى تحمي قلبه من السرقة وتحول دون إنكاره لأقوال صاحبه عند مثوله أمام آلهة العالم الآخر في المحكمة الإلهية، حيث تجري محاسبته وتُحدِّد براءته من عدمها ما إذا كان يستحق الخلود أم لا. لكن هذا الأمر لم يفت الكهنة الذين كتبوا أيضًا العديد من التعاويذ التي تضمن للمتوفَّى براءته.

الطريف في الكتاب هو وجودُ نصوصٍ كُتبت لتُجنِّب المتوفَّى السير على رأسه، وأكل الفضلات، وشرب البول، إلى جانب أخرى تُحافظ على طهارة ثوبه. لكن المدهش أن الكهنة كانوا يكتبون هذه التعاويذ لبيعها، وأن موظفي الدولة وغيرهم من علية القوم كانوا هم وحدهم القادرين على شرائها.