المتابع لما يحدث بفلسطين المحتلة يلاحظ أن ردود الفعل الرسمية الأوروبية بشأن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة بدت تثير الاستهجان، إذ يمكن وصفها بالانتقائية والداعمة بشكل فاضح لإسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين، وظهر ذلك بشكل واضح في عديد المواقف والتصريحات، تتقاطع تلك المواقف مع ما صرح به رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتانياهو: "إذا اعتقدت حماس أنها انتصرت، فهذه هزيمة للغرب بأسره".
قال رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتانياهو: "إذا اعتقدت حماس أنها انتصرت، فهذه هزيمة للغرب بأسره"
أظهرت بعض الدول الأوروبية انحيازها الكبير وغير المسبوق للحكومة الإسرائيلية، مقابل صمت مطبق على محاولة الاحتلال مصادرة بيوت أهالي الشيخ جراح، والاقتحامات المتكررة لباحة المسجد الأقصى، ما تسبّب في تفجير الوضع وتطورت إلى مواجهات عنيفة داخل الأراضي المحتلة في قطاع غزة، والذي تحول إلى عدوان والضفة الغربية وأراضي فلسطيني 48.
اقرأ/ي أيضًا: ثورة في فلسطين التاريخية
مع بداية العدوان الإسرائيلي على غزة برزت ثلاث مواقف أوروبية لافتة في انحيازها المتطرف إلى إسرائيل، الموقف النمساوي الذي مثله المستشار سيباستيان كورتش والذي أصدر قرارًا برفع العلم الإسرائيلي على مبنى المستشارية، كما أصدر بيانًا: "يدين بشدة الهجمات على إسرائيل من قطاع غزة، وأن لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها ضد هذه الهجمات"، في حين كان الموقف الألماني صادمًا، في فقد أكدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في اتصال هاتفي مع نتنياهو على "دعمها الراسخ لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، كما صرح المتحدث باسم الحكومة الألمانية شتيفان زايبرت: "إرهاب حَمَاس الصاروخي يعطي إسرائيل حق الدفاع عن النفس، ونقف إلى جانبها في هذا الوضع".
لينتهي الأمر بزيارة وزير الخارجية الألماني هايكو ماس الاستفزازية في عز الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة ليقدم الدعم اللامحدود لإسرائيل، فقد صرح حال وصوله: "جئت إلى هنا لأعرب عن تضامني.. لدى إسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها في وجه هذا الهجوم الكبير وغير المقبول"، و"لإسرائيل الحق في مهاجمة البنية التحتية في غزة والتي يمكن أن تنطلق منها الهجمات مستقبلًا".
لم يقتصر الأمر على الجانب السياسي بل انتقل حتى إلى وسائل الإعلام، ففي سابقة غير معهودة تم تسريب وثيقة لرئيسة تحرير قناة DW مانويلا كاسبر-كلاريدج، تتضمن تعليمات جديدة تقيد حرية العمل في الوسيلة الإعلامية DW ولكيفية التعامل الإعلامي مع الأحداث التي تشهدها الأراضي الفلسطينية المحتلة، منها منع انتقاد إسرائيل إطلاقًا وعدم الإشارة إليها كدولة احتلال، ووصف حماس بالإرهابية، في حين يتم وصف المستوطنين بالمتطرفين فقط، بالإضافة للتأكيد على أهمية إسرائيل بالنسبة لألمانيا والمسؤولية التي تقع عليها في الدفاع عنها.
يبدو الموقفان الألماني والإسرائيلي متطابقين، لا بل إن بعض التفاصيل تظهر بشكل واضح أن المعركة كأنها معركة ألمانيا، من هنا فقد سعت إلى التضييق على المظاهرات السلمية المناهضة للسياسة الإسرائيلية في برلين باعتبارها فعاليات "معادية للسامية".
في حين استخدمت السلطات الفرنسية تلك الحجة لحظر التظاهرات المنددة بالعدوان الاسرائيلي على غزة فقد ذهب وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان إلى التلويح بسحب الإقامة داخل التراب الفرنسي لكل المشاركين في المظاهرات، ما خلق ردة فعل قوبة من قبل العديد من النشطاء والحقوقيين، فقد علّق أحد الحقوقيين المسؤولين على تنظيم المظاهرات بالقول إن "فرنسا هي البلد الديمقراطي الوحيد الذي يحظر مثل هذه التظاهرة"، وبالفعل كان القمع ومحاولة تفريق المتظاهرين يعري تواطؤ فرنسا مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
يبدو أن المواقف الأوروبية تحمل الكثير من المفارقات الكبيرة والعجيبة، تتمثل في حضور اليمين المتطرف بقوة في المشهد، ففي النمسا التي يمثّل فيها اليمين المتطرّف الحكومة نفسها تم إيجاد حلّ يوفق بين خطابه هذا اليمين المعادي لليهود ومشاركته في الحكومة باستبدال كره اليهود ومعاداة السامية بكره المسلمين والتضييق عليهم، ومن هنا يصبح خطاب الكراهية ومنسوب العنصريّة لديه يُفرغ بتحالف مع عنصريّة أخرى تمثلها حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل.
في ألمانيا ترتبط هذه المواقف، في جزء منها بالهولوكوست خلال الحقبة النازية، إذ تحول هذا الحدث التاريخيّ إلى مكوّن أساسي فاعل في بلورة الخطاب السياسي الألماني تجاه القضايا المرتبطة بإسرائيل، ومن ضمنها ممارساتها ضد الفلسطينيين، بحيث جعل النخب السياسية الألمانية عمومًا تحت ضغط قاهر، يتضح ذلك من تصريح وزير خارجيتها حيث صرح في زيارته الأخيرة لإسرائيل: "دعوني أكرر بوضوح تام: بالنسبة إلينا أمن إسرائيل وأمن كافة اليهود في ألمانيا أمر لا مجال للمساومة بشأنه، ويمكن لإسرائيل دائمًا الاعتماد على ذلك".
نرى اليمين المتطرّف قد فرض نفسه في السنوات الأخيرة في الساحة السياسية الألمانية، ومن هنا تصبح مسألة عقدة الذنب تجاه اليهود محل شك؟ وفي نفس السياق كان حزب البديل اليميني المتطرف الذي يلقى تنديدًا بسبب مواقفه المعادية للسامية، وللأجانب والتي تفوح منها رائحة نازية، مؤيدًا قويًا لإسرائيل، وهو واحد من عدد من أحزاب اليمين المتشدد الشعوبية في أوروبا التي حاولت ايجاد قضية مشتركة مع مواقف إسرائيل ضد الإرهاب وتنصيبها لنفسها على أنها الحصن الأمامي ضد التطرف الإسلامي.
الأمر نفسه ينسحب على الموقف الفرنسي الذي يعمل رئيس جمهوريتها إيمانويل ماكرون على ركوب موجة اليمين المتطرّف، عير التماهي مع مواقفه والمزايدة عليه عبر سن القوانين التي تستهدف تضييق الحريات عن العرب والمسلمين في فرنسا، بالإضافة إلى مواقف سياسته الخارجية أصبحت فرنسا رأس الحربة من خلال التحالف مع عرب التطبيع، عن طريق عقد صفقات السلاح والتغطية عن ممارسات تلك الأنظمة ضد شعوبها وصولا للدعم غير المحدود لإسرائيل.
بالرغم من ذلك يبقى الخطاب الأوروبي المؤيد لإسرائيل هشًّا ولا يستند إلى أرضية صلبة، ففي لقاء تليفزيوني تحدث الكاتب الفرنسي برنارد هنري ليفي، المعروف بتأييده الشديد لإسرائيل، وأحد أبرز الوجوه المرتبطة باللوبي اليهودي بفرنسا، في معرض تعقيبه عن رفض وزارة الداخلية الفرنسية السماح للمتظاهرين المؤيدين للقضية الفلسطينية بالتظاهر ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، بسوْقِ بعض الاتهامات عن انتقائية المتظاهرين الذين لم نر لهم أثرًا للتنديد بجرائم الميليشيات الصربية في البوسنة والمجازر التي ارتكبت في دارفور وقتل الإيغور المسلمين في الصين!
تغاضي الحكومات الأوروبية عن الجرائم المرتكبة في غزة يُمهد الطريق لظهور نازية تستبدل معاداة اليهود بمعاداة العرب والمسلمين
لا يتوانى الكاتب عن إظهار انتقائيته بتجاهل ما يتعرض له الفلسطينيون في الأراضي المحتلة، إذ يفترض أن القضايا العادلة ليست محل جدال ومفاضلة، كما أن الممارسات الإسرائيلية التي يدعمها هي الوجه الآخر لميليشيات الجنجاويد وصرب البوسنة وقتلة الايغور الذي يدعي الوقوف إلى جانبهم.
اقرأ/ي أيضًا: عن الحقّ في رفض إسرائيل
تجاهل الحكومات الأوروبية للجرائم المرتكبة في غزة والتغاضي عنها والتماهي مع المواقف الإسرائيلية وركوب موجة اليمين المتطرف، يُمهد الطريق لظهور نازية جديدة تستبدل معاداة اليهود بمعاداة العرب والمسلمين، ستكون أوروبا ساحة صراع عنيف لا نستطيع التنبأ إلى أي خراب سيأخذها.
ولمواجهة هذا الخيار الكارثي، يجب الانفتاح والعمل للدفع بالأصوات التقدمية والإنسانية المؤمنة بحق الشعوب في تقرير مصيرها والمعارضة للحروب، ليبقى صوتها عاليًا لمواجهة تلك السياسات ولربما تكون هذه المرة الأولى التي يظهر فيها هذا التناقض بين الموقف الرسمي الأوروبي، والموقف الشعبي كما حدث في العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة.
اقرأ/ي أيضًا: