أعكفُ حاليًا على تأليف مجموعتي القصصية الأولى، وهي مجموعة قصصية ثيمتها الرئيسة النساء وقضاياهنّ، الغريب في الأمر أنني مع كلّ قصة جديدة أنهيها وأعيد قراءتها في المجموعة أشعر بأنني أكتب نفسي، فبطلات قصصي ورغمَ أنّ كلّ واحدة منهنّ مختلفة تمامًا عن الأخرى من حيث العمر والمستوى التعليمي والمنحى الاعتقادي، إلا أنّني أشعر بأنّ كلّ واحدة منهنّ تُمثّلني وتكونني بشكل أو بآخر.
تأمّلتُ طويلًا في مشاعري هذه التي انبثقت اتجاه بطلات قصصي، فقلتُ في نفسي: ربّما لأنّ المرأة لا تكون امرأة حقًا، حتى تشعر بأنّ كلّ بنات جنسها هنّ جزءٌ لا يتجزّأ منها، وحتى تكون قادرة على فهم ألمهنّ ومشاعرهنّ وعلى تفهّمهنّ مهما اختلفنَ عنها في مستوى وطريقة التفكير.
من العجيب حقًا من أولئك النساء اللواتي يُمارسنَ نوعًا من الاستعلائية على بنات جنسهنّ ناسيات أو متناسيات بأنّ الأوضاع الدونية التي تعيشها النساء هي أوضاع قائمة على جميع النساء
أتعجّب حقًا من أولئك النساء اللواتي يُمارسنَ نوعًا من الاستعلائية على بنات جنسهنّ ناسيات أو متناسيات بأنّ الأوضاع الدونية التي تعيشها النساء هي أوضاع قائمة على جميع النساء، وأنّهنّ إن كنّ أحسن حالًا من غيرهنّ، فهذا لا ينفي عنهنّ وجودهنّ في وضع متدنٍّ، في عالمٍ ما زالت تحكمه النظرة الذكورية الاستعلائية للمرأة.
فكأنّ المرأة التي تَنظرُ باستعلائية إلى بنت جنسها ممّن هي أقلّ منها حظًّا في التعليم أو مستوى الفهم والتفكير، تنسى أو تتناسى بأنّ العالم الذي تعيش فيه هو عالم يتبنى اتجاهها نفس النظرة الاستعلائية التي تتبناها وتنظر بها إلى قرينتها ونظيرتها التي تعيش في نفس الوضع الاجتماعي المتدني.
فإدراك المرأة لحقيقة للوضع الاجتماعي الذي تعيش فيه، يجعلها تَشعر بالأخريات اللواتي يَعشنَ في نفس الوضع الاجتماعي، ويجعلها تشعر بتمثّلهنّ جميعًا داخلها مهما اختلفنَ عنها في الفهم والتفكير، وأعتقد بأنّ جزءًا مما قصدته سيمون دي بوفوار في قولها من أنّ "المرأة لا تُولد امرأة بل تُصبح كذلك"، هو أنّ المرأة لا تكون امرأة حقًا حتى تفتح عيونها على حقيقة الأوضاع الاجتماعية الدونية التي تعيش فيها، فتعي وتُدرك بأنّ كلّ بنات جنسها اللواتي يعشنَ نفس الأوضاع يُمثّلنها وهنّ جزءٌ لا يتجزّأ منها.
لعلّ أبرز ما تظهر به النظرة الذكورية الاستعلائية للمرأة هو الكيفية التي يتعامل معها الرجال مع المرأة التي تتمتّع بمستويات جمال عالٍ، فتعاملهم الاستعلائي مع هذا النموذج النسائي يكون منطلقه في الغالب اختزالها في حدودها الجسدية، وعدم أخذها على محملّ الجدّ، واستحقارها والتعاطي معها مع افتراض الغباء كصفة متأصّلة فيها وملازمة لها.
وفعلًا، فقد مرّت في حياتي امرأة يمكنني أن أعتبرها التمثيل الأبرز على هذا النموذج النسائي، فإبان المرحلة الجامعية في القسم الذي أدرس فيه، كانت هناك امرأة فاتنة، تتمتّع بقدرٍ عالٍ من الجمال، وكان نمط التعامل الذكوري معها لا يخرج عن استحقارها واستغبائها، فكلّ إجابة كانت تجيبها في المحاضرات، كانت تتحوّل إلى مادة للضحك والتندّر، وكلّ تصرّف أو تعليق يخرج منها كان يغدو موضعًا للسخرية والتنكيت.
في مرة من المرات وقد كانت تجلس في المقعد الذي يُجاور مقعدي، سمعتها تشكو لصديقتها بأنّ اظفرها قد كُسِر، أتذكّر يومها بأنني أطلقتُ في داخلي ضحكة مكتومة، حدّثتُ نفسي بسخرية: هل هذه هي أكبر همومكِ؟
اليوم عندما أتذكّر تلك المرأة أعاتب نفسي على تلكَ السخرية التي خرجت مني في استعلاء واضح، ففي لحظتي الحالية وقد غدوت أكثر وعيًا وإدراكًا، لا يُمكنني أن أنظر إلى شخصيتها وطريقة تفكيرها بعيدًا عن الأوضاع الدونية التي عاشتها، أفكّر في أنّ شكل تربيتها وطريقة نشأتها، والأقوال التي سمعتها، والأفعال والتصرفات الذكورية معها طوال عمرها هي التي أفرزت منها شخصيتها، وهي التي أحالتها إلى امرأة مهشّمة، ليس فيها سوى ظاهرها، وليس لديها همومًا أكبر من اظفرها الذي كُسِر!
لقد استلهمتُ ملامح شخصية تلكَ المرأة، وكتبتُ عنها، لتكون بطلة قصة من بطلات مجموعتي القصصية الجديدة، وكلّما أعدتُ قراءة قصتها، شعرتُ بأنّها تُمثّلني وتكونني، وأدركتُ يقينًا بأنّ اليوم الذي بدأ فيه إدراكي الفعلي لحقيقة الوضع الاجتماعي الذي عاشت فيه وأحالها إلى ما هي عليه، هو اليوم الذي يصلحُ أن أقول عنه اليومَ الذي كبرتُ فيه وأصبحتُ امرأة