بصخب كبير في موقع التواصل الاجتماعي وسكون قاتل في الشارع؛ استقبل السودانيون خبر فرض زيادات جديدة على "غاز الطهي"، وذلك على الرغم من غلق الموازنة العامة قبيل شهر تقريبًا في ظل تعهدات حكومية غليظة بأن السلع والخدمات في العام 2016 لم ولن تشهد زيادات ولو بمقدار حبة من خردل.
سؤال البديل يسيطر على الذهنية الشعبوية في السودان. وبالرغم من تطمينات المعارضة؛ تخاف فئة كبيرة من الخيارات المطروحة كبدائل لحكومة البشير
الحكومة السودانية كعهدها ابتلعت تلك التعهدات، وأقرت الزيادات غير هيابة ولا آبهة بالشارع الذي امتص الزيادة باعتيادية من كان معنيًا في قول الشاعر المجيد مظفر النواب (أنت كما الإسفنجةِ .. تمتصُ الحاناتِ ولا تسكر).
رعب الخروج
السبب الأول الذي يأخذ عند بعضهم خانة كل الأسباب يتمثل في الخوف من القمع الحكومي.
ليس ذلك ضربًا من الخيال، فقد خرج الأهالي في احتجاجات شعبية عارمة في سبتمبر من العام 2013، تعبيرًا عن سخطهم من حزمة اقتصادية أقرتها الحكومة لتغطية العجز الناجم عن انفصال جنوب السودان مع ثلثي موارد البلاد النفطية في العام 2011.
ومع توافر عدة طرائق للخروج من هذا النفق، على رأسها وقف الاقتتال مع الحركات المسلحة، وتقليل الصرف الحكومي، وكبح جماح الفساد المستشري والذي بموجبه حجزت الخرطوم مقعدها ضمن أكثر عواصم العالم فسادًا؛ مع ذلك كله التجأت الحكومة إلى الحل السهل، ورفعت الدعم عن المحروقات، فتقافزت زانة الأسعار حاملة على عصاها كل شيء.
ولأن لهيب الأسعار وصل كل بيت، خرج الأهالي وقتذاك بصدورهم العارية للتعبير سلميًا عن عجزهم وقلة حيلتهم في مقابلة وطأة الأسعار الجديدة، ولكن ما وجدوا غير الهوان من حكومتهم التي ألقمت هتافهم رصاصًا، فقضى 85 محتجًا باعترافات الحكومة، بينما تؤكد إحصاءات غير رسمية أن عدد القتلى تجاوز المائتين.
عليه؛ لا أحد يرغب في تبديد روحه ثمنًا لغاز، وحتى من تبقت في روحه جذوة من نار فنجده غير جاهز بالمرة لتقديم روحه قربانًا للعدم أسوة بما جرى لشهداء سبتمبر.
الخلاصة: احرص على (الحياة) توهب لك الحياة.
متاريس قانونية
قبل فرض الزيادة الجديدة، تترست الحكومة السودانية بتعديلات قانونية أدخلتها على مادة إثارة الشغب الواردة في القانون الجنائي لسنة 1991م، وبات في مقدور الأجهزة الأمنية الزج بالمتظاهرين في السجون لآماد تتراوح بين خمس إلى عشر سنوات، عوضًا عن الحبس لستة أشهر كما هو وارد في القانون قبيل التعديل.
ومع احتمالية ألا تلجأ الحكومة إلى سلاح القتل في مقابلة الاحتجاجات الشعبية (إن اندلعت)، فمن الواضح أنها ستحرص وقتها على تنفيذ القانون بتعديلاته الأخيرة، ما يعني أن كلفة الخروج للشارع قد تعدل خمس سنوات وراء القضبان، فكيف إن كانت عشرًا من السنوات لطالب أمامه المستقبل؟!
الخلاصة: العيش في سجن الوطن الكبير خير من الحبس في زنازين ومعتقلات نظام الخرطوم.
التخدير
لجعل الناس لك تبعًا أوهمهم بأنك فاضلت بين خيارات شديدة القسوة ثم أرحتهم بالخيار الأقل قسوة.
هذه المقولة طبقتها الحكومة بحذافيرها، فقبل أن تصرم أيام العام 2015، صرّح عدد من قادة العمل الاقتصادي في البلاد باعتزامهم الدفع بحزمة اقتصادية جديدة بمؤداها ترفع الحكومة يدها بالكلية عن سلعتي "القمح والمحروقات" في تتمة لما ابتدرته في العام 2013.
وقابل الأهالي ووسائل الإعلام هذه التصريحات بسخط بائن، حتى نستطيع القول إنه ما من جلسة للأهالي إلّا وكانت نوايا الحكومة حاضرة فيها مع صورة قاتمة للمستقبل.
بالتالي فإن حصر زيادة الأسعار على غاز الطهي وحده، جعلت كثيرين يتنفسوا الصعداء مع اللهج بالثناء والحمد على الحكومة الشفيقة التي كفتهم شر زيادة القمح والمحروقات من بنزين وجازولين.
الخلاصة: أن يأتيك شر واحد، خير من أن تنفتح عليك كل أبواب الشرور.
ضعف المعارضة
سؤال البديل يسيطر على الذهنية الشعبوية في السودان. وبالرغم من تطمينات المعارضة؛ تؤمن فئة ليست بالقليلة أن الخيارات المطروحة كبدائل لحكومة الرئيس عمر البشير ستسوق البلاد نواحي هاوية لا غرار لها.
لا يمكن القول إن ذلك تحليل لا يستوي على سوق، حيث ضيع قادة كبريات الأحزاب السودانية ثورتين شعبيتين حتى قبيل أن يصك مسامع الناس مصطلح "الربيع العربي".
الشارع السوداني أسقط نظام الفريق إبراهيم عبود في العام 1964م فيما يعرف بـ "ثورة أكتوبر المجيدة" ومن ثم استخدم سلاح الانتفاضة الشعبية ثانية في العام 1985م ليسقط نظام الرئيس جعفر نميري فيما عرف لاحقًا بـ "انتفاضة أبريل".
أما النتيجة فلم تكن سوى تسليم السلطة للأحزاب، التي فشلت في إدارة البلاد بسبب انصرافها التام للكيد السياسي ما ساق إلى عودة الجيش عبر بوابة الانقلاب في المرتين، حدّ أن قال قطب بارز في العهد الديمقراطي الذي انقلب عليه البشير مقولة موجعة قبيل الانقلاب بأيام فقط: (إن أتى كلب وأخذ الديمقراطية، فلن ينهره أحد).
وبالتالي يرفض الشعب الثورة على الوضع القائم، وتسليم السلطة لقمة سائقة لمن جربهم مرتين، ويريدون ثالثة، كما ويتمنع في ظل وجود معارضة مسلحة من تكرار سيناريوهات الربيع العربي التي قضت على أخضر ويابس سوريا وليبيا واليمن.
الخلاصة: من جرّب المجرب، حاقت به الندامة.
لم يستبعد البعض أن تكون "زين-السودان" تسهم بوعي أو بدونه في تمرير الأجندات الحكومية، وذلك برضاها لتلقي السخط الشعبي إنابة عن الحكومة
القضايا الانصرافية
تزامن رفع أسعار الغاز مع تطبيق مشغل الاتصالات الأكبر في السودان شركة "زين" لزيادات مهولة على مشتركي باقات الإنترنت.
عليه انصرف كثيرون نواحي "أزمة الإنترنت" الماثلة، وبدؤوا في تحركات واسعة لمقاطعة الشركة التي خرجت من عدة دول عربية فيما لا تزال تتمسك ببقائها واستثماراتها في السودان.
عليه، لم يستبعد بعض رواد شبكات التواصل الاجتماعي، أن تكون "زين-السودان" تسهم بوعي أو بدونه في تمرير الأجندات الحكومية، وذلك بارتضائها أن تلعب دور المتلقي للسخط الشعبي إنابة عن الحكومة.
ولمعرفة حجم المعلومات المتدوالة في السودان، نشير إلى قناعة الرئيس عمر البشير بأدوار موقع التواصل الفوري "واتساب" كوسيلة للتنفيس عن غضب وسخط الشعب السوداني من سياسات ورموز الحكومة وذلك قبيل تحوله إلى طاقة ثورية. البشير قال في مقابلة صحفية إنه (لولا نكات الـ "واتس آب" لكان الواحد انفجر).
الخلاصة: لنضمن الإنترنت حتى يتسنى لنا التعبير عن سخطنا حيال أزمة الغاز.
اقرأ/ي أيضًا: