في عام 2015، نشرت صحيفة "جو بوليس" الفرنسية تقريرًا بمناسبة الاتفاق النووي الإيراني، تحدثت فيه عن اكتشاف العالم لهذا السلاح الجديد يوم 6 آب/أغسطس 1945، عندما ألقت الولايات المتحدة قنبلة نووية على هيروشيما اليابانية. وأشارت الصحيفة إلى أن هذا التميز الأمريكي لم يدم طويلًا، ففي عام 1949 بدأ الاتحاد السوفييتي أولى تجاربه النووية ثم تلتها المملكة المتحدة عام 1952، وفرنسا عام 1960، وكذلك الصين عام 1964.
إن انتشار السلاح النووي بمفهومه الردعي يحد من عمليات الاستضعاف بين الدول الكبرى ويسقط نظرية الهيمنة الأحادية، ما يجعله عاملًا في الاستقرار لا الحرب
ومن أجل حفاظ الولايات المتحدة على تقدمها في الصناعات العسكرية والأسلحة الكيميائية الجديدة سرعان ما بدأت العمل على مكافحتها للحد من انتشارها بإصدارها قانون "مكماهون"، الذي عدل عندما أعلنت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي آنذاك. حظرت الولايات المتحدة وفقًا للقانون المذكور كل ما يتعلق بالبيانات والمعلومات حول القنبلة النووية وأبقت عليها بسرية عالية. لكن وإبان الحرب الباردة أضيف تعريف آخر للأسلحة النووية ليصبح نوعًا من الأسلحة التي تمنع الحروب المباشرة بين القوى الكبرى، وبالفعل نجحت هذه الأسلحة واستراتيجية الدرع الدارجة في تلك الفترة في تجاوز العالم كارثة إنسانية كانت ستحدث لولا امتلاك الطرفين القوة المدمرة رغم التوترات الشديدة بينهما في حينها. وفي عام 1960 تفاوضت القوتان العظميان على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية والتي تم التوقيع عليها يوم 1 تموز/يوليو 1968، ودخلت حيز التنفيذ يوم 5 آذار/مارس 1970، بعد أن تمت المصادقة عليها من قبل (الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والاتحاد السوفيتي) وأربعين دولة موقعة أخرى. وفي وقتنا الحالي تم التوقيع عليها من قبل جميع دول العالم تقريبًا باستثناء الهند وباكستان وإسرائيل، وانسحبت كوريا الشمالية من المعاهدة في 13 حزيران/يونيو 1994.
اقرأ/ي أيضًا: كيف ساعدت واشنطن النظام الإيراني على التحكم بالإنترنت؟
يرى كثيرون أن اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية ما هي إلا عملية للتقليل أو لتأخير الدول ذات القوة المتوسطة من امتلاك هذا النوع من الأسلحة، وهي أيضًا عملية لحصر التميز للدول الخمس الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن وعمل على إخضاع الأضعف للقوي.
لكن ماذا لو كانت العراق والدول العربية المجاورة لها تمتلك هذا النوع من الأسلحة؟ الإجابة ستكون على الأغلب، أن الولايات المتحدة لم تستطع غزو العراق وتمزيقها وجعلها ملاذًا آمنًا لجموع الإرهابيين في العالم. العراق الذي اُتهم بامتلاك أسلحة الدمار الشامل دُمر وأصبح نظامه الحاكم أثرًا بعد عين. وإجمالًا لو كانت كل دولة في منطقة الشرق الأوسط تمتلك السلاح النووي لما وجدنا الهيمنة الأمريكية اليوم، إذ أصبح مفهوم هذا السلاح في ظل التوترات الشديدة بين القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على النفوذ، ما هو إلى أداة ردعية للدول الباحثة عن استقرارها ومكانتها على كرسي مجتمع متساو ومتزن بالقوة.
الجمهورية الإيرانية وكوريا الشمالية نموذجان يفسر أحدهما الآخر
- النموذج الكوري
تشير تقارير صحافية غربية، عزم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفع العقوبات الاقتصادية ورفع الحظر الدولي عن كوريا الشمالية وقبولها عضوًا في النادي النووي العالمي مقابل التوقف عن إنتاج المزيد من أسلحة الدمار الشامل التي تمتلكها. جاء هذا الموقف بعد موجة من المناكفات اللفظية بين الرئيسين الكوري والأمريكي وتلويح كلاهما باستخدام السلاح النووي العام الماضي، لكن بين ليلة وضحاها تغير الموقف الأمريكي تجاه الرئيس الكوري بقبول الأخير عرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمقابلته في سنغافورة في 13 حزيران/يونيو 2018، وبعدها أيضًا في هانوي عاصمة فيتنام في 26 شباط/فبراير 2019. كما التقى الرئيس ترامب بنظيره الكوري قبل أيام في المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين في لقاء دام لساعة تكنفه الغموض، لكن لم تصل العلاقات بينهم إلى درجة الشدة خلال المحادثات بالتهديد مجددًا باستخدام الأسلحة المباشرة أو الغزو كما حدث في العراق أو كما كان يمكن أن يحدث في إيران عقب أزمة طائرة الاستطلاع. كل ما في الأمر هو التفاوض على وقف إنتاج مزيد من الأسلحة مقابل رفع العقوبات الغربية عن كوريا الشمالية المعزولة وقبولها عضوًا في نادي الدول القوية. في هذا النموذج تسعى الولايات المتحدة إلى سحب عصى الطاعة الكوري من تحت عدوتها التاريخية روسيا وشريكتها الصين حيث تربطهما علاقات جيدة بكوريا الشمالية وهذا ما بدا واضحًا من خلال تكرار الزيارات بين الأطراف الثلاثة. ولعل السعي الأمريكي يحول هذه المرة دون وقوع كارثة إنسانية، وهذا الالتفاف في البيت الأبيض حول تسوية الصراع الكوري عن طريق الحلول الدبلوماسية يعود لامتلاك كوريا الشمالية السلاح الفعلي النووي.
- النموذج الإيراني
يقول المفكر الأمريكي جون ميرشيمر في مقالة له نشرتها نيويورك تايمز: إن الحصار الأمريكي الاقتصادي لإيران وفشل الدول الأوروبية في الوفاء بالتزاماتها تبعًا لذلك لا يترك مجالًا لإيران غير الهروب باتجاه إنتاج السلاح النووي، ويضيف أيضًا أن "أقصى ضغط على إيران، يأتي بنتائج عكسية بأكثر الطرق خطورة، لأنه يعطي طهران حافزًا قويًا لأن تكون قوة نووية، وفي الوقت نفسه تجعل من الصعب على الولايات المتحدة منع ذلك".
اقرأ/ي أيضًا: ما هي فرص استمرار التحالف الروسي الإيراني بعد انتهاء الحرب السورية؟
ما بدا واضحًا الآن هو ظهور النتائج قبل وقوع السبب، ايران تضع الآن بين نصب عينها التجربة الكورية، وكيف أنه من الأفضل لها التفاوض بعد امتلاكها للسلاح النووي. بذلك تكون الولايات المتحدة وشركاؤها الأوربيون فرضوا على إيران امتلاكها السلاح بأقصى سرعة لتتجنب نموذج العراق والدول المنهارة والظفر بنموذج كوريا الشمالية. ومن المستبعد أن تستسلم إيران أمام العقوبات الجديدة، حيث تمتلك خبرة أولًا في التعامل مع مثل هذه الظروف وإدارتها. وبحسب وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية فإن البلاد قد تجاوزت حدود اليورانيوم المخصب المفروضة عليها بموجب الاتفاقيات الدولية لعام 2015.
ستتجه إيران إلى إنتاج القنبلة النووية بعدما شاهدت وشاهد العالم أن أفضل موقع للتفاوض هو امتلاك الأسلحة النووية، لا التوقف عن العمل على تجهيزها، فكوريا الشمالية الآن تقترب من صفقة كبرى لبقائها كدولة نووية قوية. لذلك فإن انتشار السلاح النووي بمفهومه الردعي يحد من عمليات الاستضعاف بين الدول الكبرى ويسقط نظرية الهيمنة الأحادية، ولعل فشل اتفاقية الحد من الأسلحة النووية يدل على أن هناك أطرافًا لا تريد التساوي بين القوى وإحداث التوزان بما يعود على العالم بسلام واستقرار أمني، بدلًا من البقاء على شفا حفرة الحرب.
اقرأ/ي أيضًا:
العملية كاسندرا.. كيف قايضت واشنطن مخدرات حزب الله بالاتفاق النووي الإيراني؟
أمريكا تهدد وإيران تتوعد وأوروبا تحبس أنفاسها.. فما مصير الاتفاق النووي؟