فشل كل من الرئيس الأمريكي جو بايدن، وكيفن مكارثي، رئيس مجلس النواب الأمريكي، في التوصل إلى وسيلة من أجل رفع سقف الدين الأمريكي الذي يقدر بحوالي 31.4 ترليون دولار أمريكي، وذلك قبل عشرة أيام فقط من موعد محتمل لدخول الولايات المتحدة في حالة عجز عن سداد الدين، وهو ما من شأنه أن يولج البلاد بأسرها في مشاكل اقتصادية كبيرة، يرى محللون أنها قد تشابه في مداها ما حصل أثناء فترة الكساد العظيم.
فما هي أزمة سقف الدين الأمريكي، وما الذي تعنيه لاقتصاد الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي؟ ولماذا لم يتوصل السياسيون الأمريكيون لحل لها بعد؟
ما هي أزمة سقف الدين العام الأمريكي؟
سقف الدين العام الأمريكي هو الحد الذي يمكن للحكومة الأمريكية استدانته لدفع تكاليف الخدمات مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية والإنفاق العسكري والتعاقدات الحكومية مع الشركات المحلية والأجنبية وغيرها من المصاريف.
وفي كل عام، تحصل الحكومة الأمريكية على إيرادات من الضرائب وغيرها من المصادر، مثل رسوم الجمارك، ولكنها في نهاية المطاف تنفق أكثر مما تحصل عليه، وهو ما يترك الحكومة في حالة عجز وصل إلى ما بين 400 مليار دولار إلى 3 تريليون دولار سنويًا خلال العقد الماضي، إذ تضاف قيمة العجز المتبقي في نهاية العام إلى إجمالي دين البلاد.
سقف الدين العام لن يمثل مشكلة إذا تجاوزت الإيرادات الأمريكية، أي عائدات الضرائب، تكاليفها، ولكن الولايات المتحدة لم تحقق فائضًا سنويًا منذ عام 2001، بل إنها استدانت من أجل تمويل أعمال الحكومة كل عام منذ ذلك الحين، وفقًا لمجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض.
وما حدث بعد ذلك كان أن الخزانة الأمريكية لم تعد قادرة على إصدار المزيد من السندات التي عادة ما تصدرها لتكون بمثابة ضمانة لتتمكن الحكومة الأمريكية من الاستدانة، وذلك بسبب بلوغ الحكومة الأمريكية الحد الأقصى للاستدانة، وهو ما أوقف تدفق المال للحكومة الفدرالية.
ما هو الحل للأزمة؟
يتولى الكونغرس مهمة تحديد الحد الأقصى للدين العام، والذي يبلغ حاليًا 31.4 تريليون دولار، وقد رُفِع سقف الدين العام 78 مرة منذ عام 1960، أثناء تولي إدارات ديمقراطية وجمهورية على حد سواء. ولأن الخزانة الأمريكية وصلت حد الدين الأقصى مطلع هذا العام، فإن الحكومة منذ ذلك الحين لازالت تعتمد على "إجراءات استثنائية" لتمويل أعمالها إلى حين توصل الكونغرس لقرار برفع سقف الدين العام أو تعليقه.
هذه الإجراءات الاستثنائية هي أدوات مالية بسيطة تستخدم لتلبية الالتزامات، ومن الأمثلة عليها تعليق الاستثمارات في خطط التوفير الخاصة بالموظفين الفدراليين. وبمجرد رفع السقف العام للدين أو تعليقه، تقوم وزارة الخزانة بتعويض المدفوعات المفقودة.
لكن المشكلة هي أن هذه الإجراءات الاستثنائية لا يمكن استخدامها بشكل دائم ولن يعود العمل بها ممكنًا في غضون فترة تقدر بعشر أيام، وعندها سيصبح سقف الدين الحالي ملزمًا.
قبل حدوث ذلك، هناك أيضًا مخاوف من أن قدرة الخزانة على الاستجابة بسرعة لصدمة اقتصادية، مثل أزمة مصرفية، قد تكون مقيدة بالحد الأقصى للدين.
وفي محاولة منه لتجنب النتائج الكارثية لعجز الولايات المتحدة عن سداد الدين، عكف الكونغرس على اتفاق يشمل أعضاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري لمحاولة رفع سقف الدين. ومع ذلك، يبدو أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود، إذ لم يبد أن أيًا من الجمهوريين أو الديمقراطيين على استعداد للتنازل حاليًا.
يدعو الديمقراطيون لزيادة سقف الدين بشكل نظيف، أي بحيث يكون منفصلًا عن أي تكاليف أخرى، على عكس الجمهوريين الذين يطالبون بأن يقترن بخفض كبير في الإنفاق وإلغاء قرارات مهمة في الأجندة الاقتصادية الذي أعلن عنها البيت الأبيض.
وعلى الرغم من أن بايدن مستعد على ما يبدو لإعادة النظر بخفض الإنفاق بمجرد رفع سقف الدين أو تعليقه، فإنه يبدو غير مستعد لفكرة إلزامية ربط رفع سقف الدين العام بخفض النفقات، وهو يتهم الجمهوريين باحتجاز الاقتصاد وكانه رهينة من أجل تحقيق مطالبهم المتعلقة بخفض الإنفاق.
المسألة تزداد تعقيدًا بسبب شغل مكارثي المؤقت لمنصب الناطق باسم مجلس النواب الأمريكي، إذ تركته التنازلات التي قدمها في موضع ضعيف، ومن أبرز هذه التنازلات الاتفاق بأن أي عضو يمكنه الدعوة إلى تصويت على عدم الثقة به لإخراجه من منصبه. وهكذا يصبح لماكارثي قدر محدود من القدرة على الإقناع والحرية في التحرك ضد كبار أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الذين يعارضون دعوات خفض الإنفاق.
ما الذي سيحدث للاقتصاد الأمريكي إن لم يرفع سقف الدين العام؟
لم يسبق أن يرفض رفع سقف الدين العام الأمريكي عند الحاجة، لذلك فإن آثاره ليست واضحة تمامًا، ولكنه سيتسبب في أضرار اقتصادية بالغة، إذ لن يكون بإمكان الحكومة دفع رواتب الموظفين الفيدراليين والعسكريين بعد ذلك، وستتوقف شيكات الضمان الاجتماعي، وهي التي يعتمد عليها ملايين المتقاعدين في الولايات المتحدة، كما ستصبح الشركات والجمعيات الخيرية التي تعتمد على أموال الحكومة في خطر.
وإذا توقفت الحكومة عن سداد فوائد ديونها، فسيؤدي ذلك أيضًا إلى إدخال البلاد في حالة عجز عن سداد الدين. وقد دخلت الولايات المتحدة بشكل مؤقت في مثل هذه الحالة عام 1979، وعندها ألقت وزارة الخزانة باللائمة على مشكلة غير مقصودة في معالجة الشيكات. لكن العجز المقصود عن سداد الدين من شأنه أن يحدث صدمة للنظام المالي، إّذ يتم تداول أكثر من 500 مليار دولار من الديون الأمريكية كل يوم في السوق الأمريكية.
تتوقع وفي حال استمرار هذه المواجهة بين الحزبين لفترة طويلة، فإن موديز أناليتيكس تتوقع انخفاضًا في أسعار الأسهم إلى أكثر من خُمس قيمتها، وانكماشًا في الاقتصاد بأكثر من 4٪، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى فقدان أكثر من سبعة ملايين وظيفة.
لم يسبق أن يرفض رفع سقف الدين العام الأمريكي عند الحاجة، لذلك فإن آثاره ليست واضحة تمامًا، ولكنه سيتسبب في أضرار اقتصادية بالغة داخل الولايات المتحدة وخارجها.
كيف سيتأثر الاقتصاد العالمي بذلك؟
يمكن لعجز الولايات عن سداد الديون أن يهز الاقتصاد الأمريكي الذي تقدر قيمته بحوالي 24 ترليون دولار، وهو ما سيتسبب بتجميد الأسواق المالية وخلق أزمة اقتصادية عالمية، إذ ستتوقف الطلبات الأمريكية من المصانع الصينية المتخصصة ببيع الإلكترونيات، كما سيتكبد المستثمرون السويسريون الذين يمتلكون سندات خزانة أمريكية خسائر كبيرة، ولن تتمكن الشركات السريلانكية من استخدام الدولار بديلًا عن عملتها الخاصة.
يقول مارك زاندي، رئيس الاقتصاديين في موديز أناليتيكس: "لن يسلم أي جزء من الاقتصاد العالمي" إذا دخلت الحكومة الأمريكية في حالة عجز عن سداد الديون ولم تحل الأزمة بسرعة.
وخلصت موديز إلى أنه حتى لو تم تجاوز سقف الدين العام لأسبوع واحد فقط، فإن اقتصاد الولايات المتحدة سيضعف بشدة وبسرعة كبيرة لدرجة خسارة حوالي 1.5 مليون وظيفة.
أما إن استمر عجز الحكومة عن السداد لفترة أطول بكثير،أي حتى فصل الصيف، فإن العواقب ستكون أكثر فداحة، إذ تؤكد موديز أن النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة سيتراجع، وستختفي 7.8 مليون وظيفة في البلاد، وسيقفز معدل الاقتراض، وسيرتفع معدل البطالة من 3.4٪ إلى 8٪، كما سيؤدي انخفاض سوق الأسهم إلى محو 10 تريليون دولار من إجمالي ممتلكات العائلات الأمريكية.
وعالميًا، فلأن الدولار الأمريكي بات مسيطرًا على الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، فإن عجز الولايات المتحدة عن سداد ديونها يعني ارتفاعًا حادًا في قيمة الدولار، وهو ما من شأنه أن يغرق اقتصادات دول كثيرة، مثل لبنان وسريلانكا والإكوادور، في أزمات قد لا يمكن الخروج منها، ستفاقم أوضاع الناس.