حلقة واحدة وأولى من برنامج "قراءة ثانية" على التلفزيون العربي، تقديم أستاذ الفلسفة الإسلامية الدكتور علي السند، كانت كفيلة بتوفير الكثير لتوضيح إلحاح الحاجة لوجود البرنامج وأهميته. ولتكشف أيضا أنماطًا خطابية رائجة في أوساط إسلامية ذات حضور إلكتروني بالدرجة الأولى.
ينطلق الهجوم على برنامج "قراءة ثانية" على التلفزيون العربي من منطق احتكاري يرى أن الحديث في قضايا الفكر الإسلامي حكرٌ على مجموعة بعينها
الخطاب الاحتكاري
يتصف الهجوم على الحلقة الأولى من البرنامج بطابع احتكاري، يتمثل في القناعة بأن القول والبحث في قضايا متصلة بالفكر الإسلامي هو حكر على مجموعة بعينها. ليس الحديث عن مؤهلات معرفية أو علمية، بل عن كون القائلين منتمين إلى فكر محدد وأصحاب رؤية واحدة. فلا يجوز من منطقهم الاحتكاري أن يتحدث في قضايا الإسلام والدولة مثلًا إلا من طابق تصورهم وقرأ عليهم واستشهد بهم.
اقرأ/ي أيضًا: الكنيسة الغائبة.. أفكار عن الإسلام والسلطة
في الحلقة الأولى من برنامج "قراءة ثانية"، المقدّم وضيفاه مختصون بالشأن الذي يتداولون فيه، ويمكن لأي متابع من خارج الإطار وصفهم بالإسلاميين جميعًا. لكن حتى هؤلاء ممنوع عليهم الخوض في هذه المسائل، وتبرير ذلك من الشخصيات المهاجِمة يكشف تصورهم عمن يحق لهم الحديث والبحث، أي المجموعة التي تطابق أفكارهم وتصوراتهم.
وصل هذا الاحتكار إلى مستويات غير مسبوقة وموجهة لوسائل الإعلام، إذ يعتقد هؤلاء أن من أراد الحديث في شؤون الإسلام والسياسة والدولة فعليه استضافتهم هم، وإلا سيسلقون الضيوف والبرنامج والقناة ورعاتها بهجمات إلكترونية أشبه بهجمات الذباب الإلكتروني. ثمة "تشبيح" إعلامي يمارسونه هنا. ولا شك أنهم نجحوا في احتكار الظهور على وسائل إعلامية محددة عبر حملات الترويع الإلكتروني هذه.
هذا السلوك يعكس فهمهم للإعلام والجمهور أيضًا، فالإعلام أداة توجيه وتكريس، والجمهور في نظرهم حشدٌ من القُصر لا يرون إلا ما يريهم "الشيخ الدكتور"، ولا يمتد تفكيرهم إلا لحدود إطلالاته الإعلامية. ما يتكلم فيه هؤلاء هو أجندة التفكير عند الأمة كلها، وكل ما يسكتون عنه فالخوض فيه مشبوه. لنا أن نتخيل أن مفردة "حرية" و"رأي آخر" لم ترد في معجمهم الاحتكاري قطّ.
الخطاب السلطوي الاستبدادي
من أبده البديهيات أن النظم الاستبدادية والسلطوية في منطقتنا، وعلى رأسها النظام السعودي والإماراتي، لا يرميان إلى القضاء على الدين أو اجتثاثه من الحياة العامة أو السياسية، بل يفعلان ما دأب عليه كل نظام استبدادي، وتميزا به، من استخدام نسخة محددة من الدين لضرب المجتمع والسياسة والخصوم. نسخة محددة لها مشايخها ومنظروها تُستخدم كشرعية للقهر والتسلط. نسخة تسمح للناس بالاتصال هاتفيًا لسؤال الشيخ عن فتوى، فإن مس الحديث شأنًا سياسيًا يقطع الخط ويترك الهواء كله لممثل النسخة التسلطية في تفصيل الدين والسياسة على هوى حكامه. ولا أدل على ذلك مما يحدث في السعودية، ومن العجيب أن يضطر المرء لتوضيح ذلك لمعارضين سعوديين، حين تتقافز الفتاوى الجديدة في برامج الأنس والسهر أمام رجل مخابرات في إهاب مذيع.
اقرأ/ي أيضًا: بشار الأسد واعظًا.. جناية السلطة ضد النص والتفسير!
إن انفتاح الإسلام على تعدد القراءات هو ما يرعب النظم التسلطية، يريدون هدم هذا التعدد لا هدم الإسلام، ومحبط جدًا، بل وغريب مريب، أن هذه البديهية غير واضحة لدى المُنبرين لمهاجمة البرنامج.
لا يقف التشابه مع الخطاب السلطوي الاستبدادي مع مشاركته "فهمه" وتعامله مع الدين، بل يتجاوزه لمشابهة الممارسات السلطوية الاستبدادية إعلاميًا. فساعة تلفزيونية واحدة كانت كفيلة بالخروج باستنتاجات كبرى أقرب إلى نظريات المؤامرات، شيء شديد الشبه بما يفعله الإعلام المصري والسعودي والإماراتي مع معارضيه. مجرد نقاش لكتاب يعني استهدافًا للأمن القومي، مجرد لقاء ثقافي يعني التخطيط لقلب نظام الحكم، مجرد اجتماع أصدقاء وتداولهم بشأن بلدهم يعني أنهم مدفوعون من دافع خارجي لتخريب البلاد. هذا أليق بأحمد موسى لا بمن يحملون مسميات "الشيخ الدكتور".
إن انفتاح الإسلام على تعدد القراءات هو ما يرعب النظم التسلطية، يريدون هدم هذا التعدد لا هدم الإسلام
تمتد مشابهة أساليب الأنظمة التسلطية إلى مشابهة سلوك مخابراتها وأجهزة أمنها وعسسها، من نبش للحياة الشخصية للخصوم ومخاطبتهم بأصولهم لا بأفكارهم وما اختاروه خيارًا حرًا، ومن دسٍّ يتجاوز المادة موضوع النقاش وأصحابها إلى قناة كاملة ثم متابعي القناة وجمهورها.. والمعروف أن هذه الأساليب إن لم يردعها رادع أخلاقي، لا تتوقف عند حد.
هذا التشابه حد التطابق مع منطق نظم الاستبداد والقهر، يجعل المرء يحار من أن هؤلاء حازوا حظًا وافرًا من الظهور في منصات ووسائل إعلام أهم ما ميزها هو انحيازها للشعوب في سعيها صوب الحرية والخلاص من الاستبداد والفكر الأوحد والإقصاء. يتساءل المرء لماذا هم هنا، وليسوا على قنوات ومنصات النظم الاستبدادية التسلطية!
الخطاب التخويفي
في خطاب هؤلاء، يبدو الإسلام ضعيفًا، حصونه متهالكة، سيتداعى من لكزة. ويسعون بكل جهد لتصوير الإسلام على هذه الصورة الزائفة منعدمة النزاهة، لا لدعوة الناس للانشغال بالقضايا الفكرية ومناقشتها، بل إن صورة الإسلام الضعيف المهزوز تعزز صورة يصدّرونها عن أنفسهم بأنهم حماته والمدافعون عنه. صورة عامة المسلمين في أذهان هؤلاء عجيبة، هم يسوقونهم للهجوم على خصومهم، وفي الوقت عينه يُمنع عليهم الخوض في موضوع الخصومة أصلا، لا الخوض فقط بل مجرد سماع آراء مختلفة. فهذا اختصاص "الشيخ الدكتور" لا العامة، اختصاصه المحتكر والممنوع حتى عن "شيخ دكتور" آخر، لا يوافقه تصوراته.
المسلمون موضوع تخويف وتحشيد أعمى، يزعق زاعق فيهم أن الإسلام مستهدف، ويُراد لهم أن يتداعوا لمبايعة صاحب الزعقات. يريدون "بيعة خوف" من المسلمين على تويتر. والحقيقة أن المسلمين هم المستهدفون، لا الإسلام، وهم من يحيق بهم خطر هذا الخطاب التخويفي ورعاته.
ظل في الكنانة سهم، ثمة قلة أخلاق ونزاهة. على شاشة التلفزيون العربي برنامج لسلمان العودة. يبعث الرجل على حزن كبير وهو يواجه نظام الإجرام في السعودية. يدفع ثمن الكلمة والموقف والظهور الإعلامي، صورته تقول الكثير عنه وعمن يعلي صوته. ويحار المرء حين يصفه ويصف هؤلاء بالإسلاميين، حين يشركهم في التوصيف نفسه.
يحار المرء حين يصف سلمان العودة ويصف هؤلاء بالإسلاميين، حين يشركهم في التوصيف نفسه، وهو يواجه نظام الإجرام في السعودية ويدفع ثمن الكلمة والموقف والظهور الإعلامي
النزاهة تقتضي أن ينظروا في الجهد الكبير المبذول في مواجهة نظم التسلط والقهر، ومدافعة جورها الذي بلغ كل شيء داخل بلدانهم وخارجها. والأخلاق تقتضي النظر في الأكلاف التي تحمّلها صحفيون وصحفيات من نظم القهر، التي يدعي هؤلاء معاداتها، جراء عملهم في وسائل إعلام تنبش في جدران القهر والاستبداد لتفسح للحرية والتعدد مسربًا.
اقرأ/ي أيضًا:
سلمان العودة تحت أعواد المشانق.. استنكار عربي لقمع ابن سلمان
أخلاقيات الزمن الفروسي الإسلامي