لم تعد البسطات حكرًا على شهر رمضان ولا على المنتجات المتعلقة به، فالظروف التي تعيشها البلاد العربية حكمت على أهلها بأن يبسطوا ما توفر لديهم من مساند وأقمشة أينما كان ووقتما كان ليعرضوا عليها كل شيء تقريبًا.
أما في رمضان، فتزداد البسطات وتنتشر على امتداد الوطن العربي حتى تصبح الدكاكين والمحلات التجارية بمثابة تفاصيل على الهامش. وينتشر رجال السلطة في الشوارع ليزيلوها وهم يعرفون تمامًا أن غيرها سيعود بمجرد ذهابهم. وضمن دائرة، لا يبدو أنها ستنتهي قريبًا، من مد البسطات وإزالتها نسمع دردشات وقصصًا على عجل.
في رمضان، تزداد البسطات وتنتشر على امتداد الوطن العربي حتى تصبح الدكاكين والمحلات التجارية بمثابة تفاصيل على الهامش..
في هذا التقرير نلقي نظرة عن قرب على بسطات في ست دول عربية ونسمع أصوات أصحابها.
1) الأردن
أبو ثائر: "بيحكولي دايمًا ريحتك مِسك"
إن مررت أمام الجامع الحسيني في وسط العاصمة الأردنية عمان، قد تلفتك رائحة المسك هناك. فهناك يبسط أبو ثائر بسطته الصغيرة ويراكم عليها المسك والعنبر الصناعيين الممتازين لتعطير الملابس قبل توظيبها، كما يقول.
أبو ثائر يعمل في الطوبار والحديد في الأعمال الإنشائية، لكنه منذ شهور بدأ يعمل على بسطة المسك أيضًا، إذ لم يعد عمله الأساسي مجديًا مع تقدمه في السن ومع تضاؤل الفرص والأجور على حد سواء.
بسطة المسك أيضًا لا تكفي لسد احتياجات عائلة أبي ثائر، لكنها تظل "أحسن من القعدة في البيت... والجميع بقولولي ريحتي دايمًا مسك وحلوة."
قبيل لقائنا بأبي ثائر كان موظفو أمانة عمان الكبرى قد أزالوا عشرات البسطات في وسط البلد في حملة مفاجئة من حملات الأمانة التي تتكثف في رمضان. كما أعلنت الأمانة أنها في الأسبوع الأول من الشهر الفضيل نفذت 657 زيارة لبسطات أزالت منها 375 ووجهت إنذارات لـ 226 أخرى، في حين حررت مخالفات لـ 18 منها وأتلفت 13 ألف لتر من العصائر التي تباع على بعضها. وتبرر الأمانة إتلاف المواد الغذائية التي تباع على البسطات بمخالفتها لشروط الصحة العامة، في حين ينظر أصحاب البسطات إلى حملات الأمانة على أنها سلب لأرزاقهم.
2) تونس
بائع الخبز: "خدمة النهار ما فيها عار"
في أحد أسواق حي الزهور في العاصمة تونس، يقف شاب عشريني أمام بسطة الخبز. عشرات الأرغف من أنواع الخبز بالزيتون والمبسّس والكعك يصفها الشاب بأناقة فوق صناديق مرتبة على مسند خشبي وبضع صناديق بلاستيكية لتشكل بسطة، أو نصبًا كما يطلق عليها التونسيون.
الشاب الذي رفض نشر اسمه أو صورته، يسارع إلى التأكيد على أن لديه دبلوما في إدارة المطاعم والكافيهات وأنه عمل في مقاه عديدة، لكن اعتماده على بسطة الخبز مؤقت و"باش الواحد مايمدش إيديه"، كما أنه يعمل ويكد ليحصل على رزقه بعرق جبينه، فكما يقول المثل التونسي الشهير "خدمة النهار ما فيها عار."
صاحب بسطة الخبز واحد من آلاف الشباب التونسيين الذين وجدوا في عرض كل شيء، حرفيًا، على البسطات ملاذًا يكفيهم ضنك العيش في بلد اندلعت ثورة شعبية عارمة فيه على يد صاحب بسطة!
السلطات من جهتها غائبة عن كل ما يتعلق بشؤون البسطات رغم الشكاوى الناتجة عن عشوائية البيع على البسطات من جهة والحاجة إلى هذا الشكل من طرق الكسب من جهة أخرى للتعامل مع نسبة بطالة وصلت إلى أكثر من 15% العام الماضي، وقد يكون السبب وراء هذا الغياب واضحًا في ظل ما سبق ذكره.
أما أصحاب البسطات الذين وُعدوا بُعيد الثورة بتخصيص سوق لهم، فلا يبدو أن 13 عامًا كافية لإنشاء ذاك السوق.
3) فلسطين
بسطات تحت الاحتلال
في واحد من الشوارع السكنية لمدينة غزة تفاجئك بسطة العم سعيد، وقد يفاجئك تنوع محتوياتها. بخور وفوانيس رمضان إلى جانب جوارب ومرايا وأشياء لا يمكن أن تراها مجتمعة إلا على بسطة.
يتحدث العم سعيد بفخر عن أبنائه الذين يدرس أحدهم الصحافة في الجامعة، فلا بد إذّا أن السنوات الطويلة من عمر العم التي قضاها يعمل في المطاعم وعلى البسطات بدأت تؤتي أكلها الآن، ولا بد أن ابنه سيعمل في وظيفة جيدة تؤمن القليل من الراحة لوالده الخمسيني.
شهادة ليسانس الحقوق التي يحملها العم سعيد لم تكن له عونًا لكسب عيشه، وكذلك الأمر بالنسبة لآلاف الغزيين الذين يعدون الأكثر تعليمًا في الوطن العربي والأقل حظًا في الحصول على الوظائف، فما إن يتخرجوا من الكليات والجامعات حتى يجدوا أنفسهم أمام نسبة بطالة بلغت 45% عام 2022، ونسبة فقر تجاوزت 81% بين الأفراد.
حقائق مشابهة نجدها في الضفة والقدس والداخل أيضًا، وكل ذلك يدفع بالفلسطينيين دفعًا باتجاه سبل كسب بديلة من أهمها البسطات.
لكن أصحاب البسطات على امتداد فلسطين التاريخية يجمعهم أيضًا أمر آخر غير فلسطينيتهم، إذ إنهم جميعًا يواجهون سلطات تحاول فرض هيبتها من خلال استهدافهم بحجج من قبيل إعاقة البسطات لحركة المارة وتشويهها للمنظر الحضاري لمدن تعيش تحت الاحتلال.
4) العراق
سيد: "الطرشي ما يحتاج حد يوصفه!"
يعرض سيد محتويات بسطته وأنواعها الأربعين بحماسة رغم أن ألوان المخللات المرتبة عليها، أو الطرشي كما يسميها العراقيون، ورائحتها التي تفتح شهية الصائمين كفيلة بجلب الزبائن من آخر سوق كربلاء.
يقول سيد إن الكل يحب زيت الزيتون، فما بالك بالطرشي بزيت الزيتون؟! أما المخللات المحشية فـ "ما يحتاج حد يوصفها"، والإقبال عليها في رمضان يتضاعف إذ تعد من الوجبات الرئيسية على موائد العراقيين خلال الشهر الفضيل.
قبل شهر من لقائنا بسيد، تجمع عشرات أصحاب البسطات أمام مبنى المحافظة للاحتجاج على حملة لإزالة بسطاتهم وإتلاف محتوياتها الغذائية، وهو ما تسبب لهم بخسائر باهظة.
في محافظات أخرى أيضًا تتكرر كل فترة الحملات الحكومية لإزالة البسطات استنادًا إلى الحجج ذاتها التي تستخدمها السلطات في الدول العربية كلها، والتي تتمثل بالحفاظ على المظهر العام للمدينة. لكن الأمر في محافظات العراق يأخذ منحى يختلف قليلًا، إذ تتخلل عمليات الكر والفر بين أصحاب البسطات والسلطات تفاصيل سياسية وأخرى طائفية في الوقت الذي تتجاوز فيه أرقام البطالة بين الشباب في البلاد 23% ، ويعيش فيه ربع العراقيين على الأقل تحت خط الفقر.
5) السودان
حذيفة: "البلد دي حاكمينها جنجويد، ما في للتعليم قيمة"
في وسط مدينة الخرطوم ترى عشرات الشباب من أصحاب البسطات، أو الفريشة كما يطلق عليهم السودانيون، مع فرشاتهم التي باتت وسيلة لكسب لقمة عيش صعبة. شباب، بل وشابات، جامعيون في الأغلب، ينزلون إلى الشوارع لا من أجل التظاهر هذه المرة بل لبيع ما تيسر.
حذيفة مهندس كهرباء وضع شهادته الجامعية جانبًا وفرش بسطة للأحذية. يقول إن الظروف بعد استحكام سطوة العسكر على البلاد باتت أقسى على الجميع وأنها آخذة بالتدهور، فـ "البلد كلها عسكر وكلها ميليشيات ولسة في باقي النظام البايد، والناس دي كلها متنازعة"، وهذا ما لم يكن شباب الثورة يأملون أن يروه في البلاد.
كان حذيفة يطمح إلى إكمال دراساته العليا، لكن التعليم في بلاد يحكمها العسكر وأعوانه يبدو ضربًا من الجنون والشعوذة. "البلد دي حاكمينها جنجويد... البلد دي حاكمينها رباطة (شبيحة)، ونقطة!"، يقول حذيفة.
يعد السودان من بين الدول الأعلى عربيًا في نسبة الأمية، إذ بلغت نسبتها وفقًا لآخر الأرقام 31%. ورغم انخفاض أعداد الخريجين الجامعيين في البلاد، تعجز السلطات عن تأمين فرص عمل كريمة لهم.
في المقابل، أثناء كتابتنا لهذا التقرير، اندلعت اشتباكات بين قوات الجيش السوداني من جهة وقوات التدخل السريع من جهة أخرى بعد أيام توترت فيها العلاقات بينهما. أما السودانيون فيكتفون من جهتهم بوصف الأطراف المتنازعة بـ "الميليشيات" و"الجنجويد"، إذ لم تعد التسميات تشكل أي فرق.
6) الجزائر
البسيط: "اللي عندو يدي واللي معندوش يدي"
في رمضان من كل سنة، يشد عشاق الفواكه الموسمية وغيرها رحالهم صوب طاولة "البسيط"، الذي لقّبه بهذا اللقب سكان عين مليلة شرقي الجزائر.
بلال الثلاثيني بائع بسطة، أو أحد الباعة الفوضويين كما يسميهم الجزائريون. على طاولته تحتفل الألوان، إذ إن سنوات عمله الخمسة عشر في هذا المجال تركت له معرفة كبيرة بكيفية جذب المشترين، فتراه يرتب الفواكه بنسق يعجب الرائي.
سنوات عمل بلال الطويلة أيضًا علمته أن يبسط يد المساعدة للناس، فهو يرفع شعار الفاكهة للجميع، و"اللي عندو يدي واللي معندوش يدي" خاصة في شهر رمضان المبارك، وهو ما يدفع بالكثيرين أن يقصدوه ليعطوه من أموالهم فيوزع بثمنها فواكه على المحتاجين.
البسيط وغيره من أصحاب البسطات في الجزائر لا يخفون رغبتهم في الحصول على محلات ثابتة لمزاولة نشاطاتهم التجارية، تقيهم الملاحقات الأمنية. لكنهم في الوقت ذاته يرفضون العمل في أسواق استحدثتها السلطات لهم بسبب إما بعدها عن المناطق السكنية أو عدم ملاءمتها للأنشطة التجارية، على حد قولهم.
السلطات الجزائرية أيضا أطلقت عام 2020 سجلًأ تجاريًا متنقلًا خاصًا للباعة المتجولين، وكان الهدف منه أن يضمن انخراطهم في الدورة الرسمية للاقتصاد المنظم. لكن الإقبال على السجل كان ضعيفًا، إذ يخشى الباعة من تحوله مستقبلًا إلى المطالبة بدفع ضرائب في ظل عدم وجود ضمانات تحول دون ذلك.