كثيرًا ما نغفل عن حقيقة اجتماعية راهنة، هي أنّ قطاعًا واسعًا من الجيل الجديد، بات يربط قوّة دولة من الدّول، بقوة فريقها الوطني لكرة القدم، بل إنه يُبرمج حماسه الوطني، صعودًا وهبوطًا، على صعود وهبوط فريقه الوطني. فالجزائر، عند هذا النّوع من الشّباب، رائعة ومهمّة وجديرة بالعيش فيها، ما دام فريقها قد تألّق في كأس العالم، وأرهق الفريق الألماني العتيد في البساط الأخضر، وكاد يقابل الفريق الفرنسي، ويطيح به، بما يسمح بانتقام رمزي للذّاكرة التّاريخية المجروحة، وهي غير ذلك، ما دام فريقها خرج من الدّور الأوّل من منافسات "كأس أمم أفريقيا" في الغابون قبل أيام قليلة.
لقد أصبحت كرة القدم "دينًا جديدًا" ومعه تغيّرت مفاهيم الولاء والشغف والفرجة والسّعادة
لقد أصبحت كرة القدم "دينًا جديدًا"، ومعه تغيّرت مفاهيم الولاء والشغف والفرجة والسّعادة، وبات نجومها أنبياءَ العصر الجديد، تكفي إطلالة إشهارية منهم، لجعل سلعة ما في صدارة السّلع الأكثر مبيعًا، ودعوتهم إلى مبادرة إنسانية ما، من أكثر الدّعوات قبولًا في الشارع، وهو ما لم يستطع أن يفعله سياسي من السّياسيين أو مثقف من المثقفين في الجزائر.
اقرأ/ي أيضاً: أمم أفريقيا.. كيف يتأهل العرب إلى دور الـ 8؟
قبل انطلاق عرس الغابون، أقيمت الأعراس في الشارع الجزائري، ونصب شباب عاطلون عن العمل طاولاتٍ لبيع الأعلام الوطنية، وما يُحيل على الفريق الوطني، واستعدّ الشّباب للخروج بسياراتهم ومفرقعاتهم، ليجعلوا من ليل المدينة الجزائرية نهارًا، غير مبالين بالعاصفة الثلجية، وما رافقها من برد. "كنتُ مستعدًّا لأن أتجمّد بردًا، ما دام الأمر يتعلّق بالفريق الوطني"، يقول الشاب ياسين فضيل، شرق الجزائر العاصمة.
المقاهي أعدّت كراسيها، وتزوّدت بما يكفي من المشروبات، ذلك أن الجزائريين يُفضلون متابعة المقابلات الرّياضية في المقاهي، بل إن هناك فضاءاتٍ تجاريةً كيّفت نفسها، لتصبح مقاهي تستقبل المناصرين، ولئن فشلت الدّعوة الحكومية، قبل أسبوعين، في جعل الجزائريين يعلقون العلم الوطني في شرفاتهم، رفضًا منهم للتخريب الذي حصل بسبب الاحتجاج على قانون المالية الجديد، فقد فعلها الشّباب هذه المرة عفويًا، فعلقوا الأعلامَ والشّعاراتِ الوطنيةَ، ليس في الشّرفات فقط، بل في مداخل العمارات والأحياء السّكنية أيضًا.
اختفت الاحتجاجات، وعاد المحتجون إلى "عقولهم" التي لم تعد تفكر إلا في "الفتوحات" التي سيحققها "ثعالب الصحراء" في الغابون، وهو المعطى الذي جعل كثيرين يقولون إن المناسبة أنقذت الحكومة الجزائرية من مخالب الشّعب الغاضب، وآخرين يصرّون على وصف كرة القدم بالأفيون الجديد.
لاحظنا خلال هذه الأيام، في الواقع وفي موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، قلّة الشّجارات بين الشّباب في الشّوارع والأماكن العامّة، وزيادة جرعة الحميمية بينهم، واختفاء حديثهم عن الهجرة غير الشرعية إلى الضّفّة الشّمالية من المتوسّط، وفتور نبرة التبرّم من الوضع العام، والحرص على الأناقة في اللباس، والحرارة في الحركة والكلام وتبادل التحايا، حتى أنه كان ممكنًا أن تأخذ أيَّ شيء من أيِّ شاب. يقول وائل من جامعة البليدة: "هذا يدلّ على أن الشّاب الجزائري يفتقر إلى مشروع مجتمع يُبرمجه على الانطلاق والرّوح الإيجابية، ولم يبقَ أمامه إلا المناسبات الرّياضية التي تحيي فيه الحماس للحياة".
انتشرت أغنية تهكمية إثر انسحاب الجزائر من الدور الأول لكأس أفريقيا بعنوان "شكون حنا؟" أي من نحن؟ وكانت الردود حولها مختلفة
اكتظت المقاهي، قبيل المقابلة التي جمعت الفريق الجزائري بفريق زمبابوي، وكان الجميع متأكدين من الفوز، لذلك فقد كان الكرم باديًا عليهم. هذا يطلب من هذا أن يشرب شيئًا على حسابه، لتكون النتيجة صفعة خفيفة، هدفان مقابل هدفين، ومن أبرز التعليقات في هذا الباب: "تعادلنا في هبوط العملة وتشبّث الرّئيسين بالكرسي، بوتفليقة وموغابي، فمن المنطقي أن نتعادل في الكرة".
اكتظت المقاهي مرّة أخرى، قبيل مقابلة تونس، ممّا دلّ على أن الأنصار لم يفقدوا ثقتهم تمامًا في فريقهم. كنت يومها في إحدى الدول العربية، ولاحظت كيف أنّ المغتربين الجزائريين هيمنوا على أحد الصّالونات، غير أنهم كانوا أميلَ إلى الصّمت والهدوء. كانت ثقة معجونة بالخوف، وكان تفوّق التونسيين بهدفين مقابل هدف واحد، صفعة ثقيلة هذه المرّة. علّق أحدهم لـ"ألترا صوت": "ليس لي من عزاءٍ ما عدا أنّ شقيقي التونسي سيفرح هذه الليلة، بعد الفترة الصّعبة التي عاشها".
ظهرت حركة تعليقات هادئة في الشّارع وفي "فيسبوك"، أثمرت حماسًا أقلَّ في المقابلة التي جمعت الجزائر بالسنغال، ثم تحوّلت إلى "معارك" غاضبة، بعد التعادل المؤدّي إلى الإقصاء الذي اعتبره المدرّب السّابق حكيم سرّار "نكبة وطنية".
وهي اللحظة التي أثمرت شعارًا بات متداولًا بشكل واسع هو "شكون حنا"؟، أي من نحن؟ وهو عنوان أغنية تهكمية أطلقتها نخبة من الـ"بودكاست" منهم أنس تينا. حيث بات الجزائري يسأل: "شكون حنا؟"، ويقترح جوابًا، مثلما فعل الإعلامي أسامة وحيد. "شكون حنا؟"، "حنا كرة يلعبو بيها". والإعلامية زهور شنوف: "حنا اللي كنا نمسحو الديون بالهاتف"، إشارة منها إلى تحوّل الجزائر من مرحلة مسحت فيها ديون عدّة دول أفريقية، إلى مرحلة باتت فيها تقترض من البنك الأفريقي.
إنّ السّلطة التي باتت تتمتّع بها كرة القدم في الجزائر، منحتها القوّة، قبل غيرها، لأن تثير سؤال الهوية في صفوف الجزائريين، ليس من زاويتها التّاريخية فقط، بل من زاوية الواقع الاجتماعي والسّياسي أيضًا، وهو مفصل عميق جدًّا، سيؤدّي إلى نقلة جديدة، لو أحسنت المنظوماتُ المختلفةُ استغلالَه.
اقرأ/ي أيضًا: