مازلت أذكر السائق الذي ركبت معه ذات مرة وقال لي إنه بالرغم من ممارسته مهنة قيادة السيارات فترة طويلة من الزمن إلا أنه ما زال يتعجب في كل يوم كيف توصل الإنسان إلى جعل الحديد يسير على الأرض. وبقدر ما أدهشتني هذه الملاحظة، في البداية، بقدر ما أحزنتني فيما بعد.
فهذه الملاحظة تبين حجم الفجوة التي مازلنا كعرب نعاني منها بين ثلاثة مجالات أساسية، هي: العلم والعقل والواقع. فهذا السائق لا يزال في محاولاته الأولى لتنسيق هذه المجالات معًا. فهو يعرف كيف يقود السيارة وقد قادها باقتدار بالفعل، ولكنه لا يزال لا يستوعب بشكل كامل أبعاد النظريات العلمية التي أدت إلى اختراع المحرك الكهربي على سبيل المثال. يجب ألا نعتب على هذا السائق، فكثيرًا ما تفاجئنا التطورات والمخترعات العلمية المعاصرة بما اعتدنا أن نظنه غير معقول، وكذلك كثيرًا ما تفاجأنا بما اعتدنا أن نظنه غير واقعي. هكذا تحدث هذه الفجوة الخطيرة لدينا كعرب، بين منجزات العلم المعاصر، وما نعلمه عن العقل ونتعلمه عن الواقع. نظن أن مسؤولية التعليم هي إعدادنا لتقبل هذه المخترعات، بل والمساهمة في تطويرها إن لم يكن في اختراعها وابتكارها. ولكن كيف يمكننا ذلك كعرب إن كانت هذه الفجوة ما زالت قائمة في أذهاننا وممارساتنا بين العلم والعقل والواقع؟
المشكلة الكبرى فيما يخص هذا التساؤل تتعلق بأن منظومة التعليم في بلادنا العربية تجعل المؤهلين للإجابة عن مثل هذا التساؤل هم من يتدربون لممارسة أنشطة غير علمية
إن التساؤل عن النظريات الكامنة وراء المخترعات العلمية المعاصرة، هو تساؤل ذو طابع تأملي وفلسفي، إلا أن له أبعادًا حاسمة على ممارسة العلم.
اقرأ/ي أيضًا: التعليم المغربي.. أرقام صادمة رغم خطط الإصلاح
والمشكلة الكبرى فيما يخص هذا التساؤل تتعلق بأن منظومة التعليم في بلادنا العربية تجعل المؤهلين للإجابة عن مثل هذا التساؤل هم من يتدربون لممارسة أنشطة غير علمية. بل إن من تحرص منظوماتنا التعليمية العربية على إعدادهم لممارسة العلم، غالبا ما لا يكونون مؤهلين لممارسة التفكير التأملي المتعلق بالعلم. وبهذا تعمل منظومتنا التعليمية العربية على تخريج وتدريب العلماء بصفتهم مجرد ممارسين للعلم، ولكنهم على غير دراية بفلسفة العلم. وهكذا تحرص أغلب المنظومات التعليمية العربية على حصر من يعدونهم ليصبحوا علماء المستقبل في مجال وحيد هو مجال التطبيقات العملية.
ولذلك ربما يكون بمقدورنا أن نتوقع أن أغلب من نعدهم ليصبحوا علماء المستقبل سوف يبقون عاجزين عن تطوير نظريات علمية جديدة أو ابتكار نظريات بديلة. بل نتوقع لهم أن يبقوا ويستمروا محصورين ومحشورين داخل النظريات العلمية المستقرة والمكتشفة بالفعل. وبذلك نظل، وعلماؤنا، محصورين في اجترار ما أنتجه الغرب من نظريات علمية، من دون أن نتطرق أو نجرؤ على التطرق إلى التفكير في ابتكار نظريات علمية جديدة أو في إدخال تعديلات حاسمة على النظريات العلمية القائمة، اعتمادًا على عقولنا وعلى مشاهداتنا في الواقع.
من هنا تأتي أهمية التذكير بإعادة النظر في السياسات التعليمية في البلاد العربية، بحيث تتطور عما هي عليه حاليًا وتساعد في إثارة الدهشة التعليمية والتساؤل لدى الطلاب العرب، فربما يحدث بعض التغيّر في بحيرة الركود العربي.
اقرأ/ي أيضًا:
"الحجاب" في مدرسة بغزة يساوي "أمن الدولة"
"المنتسيوري".. فلسفة تعليمية جديدة