11-يوليو-2016

تعد التجارة شغل بني مزاب الدائم(Getty)

ليس بنو مزاب أقلية عرقية في الجزائر، بل فرعًا من الأمازيغ الذين يُعتبرون من السكان الأصليين للبلاد، وكلمة "مزاب" التي تنطق أيضًا "ميزاب" هي تحريف لكلمة "مصعب" من قبيلة زناتة الأمازيغية، ذلك أن الصاد في العربية تنطق زايًا في اللهجة المزابية التي تعدّ فرعًا من اللغة الأمازيغية، إلى جانب لهجات أخرى مثل الشلحية والشنوية والشاوية والقبائلية.

يقع وادي مزاب في محافظة غرداية ويضم تجمعاتٍ سكانية متقاربة يحكمها نظام اجتماعي يُسمى "مجالس العزابة" وهي تشرف على الحياة العامة للسكان

يقع وادي مزاب في شمال الصحراء الجزائرية، 600 كيلومتر جنوب الجزائر العاصمة، محافظة غرداية تحديدًا، ويضمّ تجمعاتٍ سكانية متقاربة مثل العطف وبنو يزقن والقرارة وبريان، يحكمها نظام اجتماعي دقيق يُسمى "مجالس العزابة" التي تشرف على الحياة العامة للسكان، الذين يعتنقون الإسلام على المذهب الإباضي، في انسجام مع الغالبية المالكية، ما عدا حالات قليلة عرفت تشنجات مؤقتة.

يعرف المعمار المزابي بملامحه الخاصة المنبثقة عن طبيعة المنطقة الصحراوية، إذ تعود بعض القصور في المنطقة إلى القرن الحادي عشر، مثل قصر العطف (1012) وقصر بنورة (1046) وهي مسجلة على مستوى "منظمة اليونيسكو" بصفتها تراثًا إنسانيًا.

تحكم الشخصيةَ المزابية خصائص على مستوى السلوك والمظهر، إذ يندر أن تجد مزابيًا واحدًا يتشاجر مع شخص آخر، أو يتفوه بكلام غير لائق، أو يتأخر عن الاشتراك في ولائم وأعراس ومناسبات العائلة، أو يلبس لباسًا غير اللباس القومي المتعارف عليه، طفلًا كان أم شابًا أم شيخًا، وهو سروال مترابط غير منفصل على مستوى الساقين مع طاقية بيضاء.

اللباس المزابي

ولا يسمح نظام التكافل الاجتماعي للمزابيين بتفشي البطالة بين شبابهم، إذ تعد التجارة شغفَهم الدائمَ، ولهم فيها براعات والتزامات وفنون، يندر أن توجد لدى باقي الجماعات في المناطق الأربع للبلاد، سواء داخل تجمعاتهم السكنية التي تستقطب معظم السواح الذين يقصدون الجزائر، أو في المحافظات الأخرى التي لا يخلو شارع فيها من محل تجاري يسمى "محل المزابي".

يجمع الجزائريون على اعتبار هذه المحلات التي يشرف عليها مواطنون من مزاب، فضاءات نظيفة وخدومة وبشوشة وخالية من الغش وعبارة "لا يوجد" التي تعشش في المحلات التي يشرف عليها مواطنون من غير المزابيين.

يلخص المصور محمد الأمين حليفة من مدينة الأغواط، 400 كيلومتر جنوبًا، الأخلاقَ التجارية للمزابي بالقول: "لا يحدث أن يغلق محله خارج أوقات الصلاة، ويفتحه باكرًا ويغادره متأخرًا، ويستقبل زبونه بحفاوة تشعره بإنسانيته، ويعرض عليه سلعه كلها، ولا يتذمر من تقليبه لها، حتى إن كان ذلك من باب الفضول، ولا يميز بين الزبائن مهما تفاوتت مقاماتهم، فهو يبدأ دائمًا بأول الداخلين، ثم الذي يليه، والأهم من هذا كله، أنه لا يصدمك بعبارة "ما عنديش"، فهو يجلب كل عناصر التجارة التي يتخصص فيها، وإن حدث أن نفذت عنده في تلك اللحظة، فإنه يسارع إلى محل آخر ليجلبها بنفس السعر".

لا يسمح نظام التكافل الاجتماعي للمزابيين بتفشي البطالة بين شبابهم، إذ تعد التجارة شغفَهم الدائمَ، ولهم فيها براعات والتزامات وفنون

في المقابل، يذكر حليفة الأخلاق التجارية السائدة في بعض المحلات غير المزابية: "الصحو من النوم بعد أن تستوي الشمس في السماء، فتح المحل بكثير من التثاؤب والكسل، عدم مرافقة الزبون إلى داخل المحل، وإن كان الغرض المطلوب ذا سعر زهيد، فهو يلجأ إلى عبارة "ما عندناش"، حتى لا يكلف نفسه عناء إحضاره، وهي عبارة تتكرر حتى فيما يتعلق بسلع تعد من ضروريات المعيشة، مع قلة الحفاوة بالزبون، وكأنه جاء متسولًا".

هذه المقارنة تذكرنا بأخرى أجراها الكاتب الفرنسي غي دو موباسان في كتابه "رحلة إلى بلاد الشمس" الصادر عام 1881، بين التاجر اليهودي في الجنوب الجزائري والتاجر المزابي: "لا يتعامل اليهودي في كل الجنوب إلا بالربا وبكل الوسائل الخسيسة الممكنة، أما التجار الحقيقيون فهم أهالي مزاب، يلاحظ المرء عندما يصل إلى قرية ما في الصحراء، فجأة أن عرقًا مختلفًا استولى على مجريات الأمور".

استقبلنا الحاج أوسعيد، 64 عامًا، في محله المتخصص في بيع المواد الحديدية، على مستوى ضاحية "باب الزوار" بالجزائر العاصمة، وبرر تفاني المزابي في تجارته وإخلاصه لزبونه، بكونه "يرى أنه تعاقد معنويًا مع المجتمع، بمجرد أن يفتح دكانًا، وأي تهاون أو غش أو تأخر أو استسهال في توفير سلعة ما، يعد خيانة لهذا العقد الاجتماعي، وهو ما ترفضه الأخلاق والأعراف والدين".

وكشف محدثنا أن المزابيين يستقبلون الشاب المقبل على تكوين بيت، عامين كاملين في محلاتهم، من غير أجرة، ما عدا مصروف الجيب، ليتعلم أصول التجارة، خاصة كيفية التعامل مع الزبون، ثم يفتحون له محلاً خاصًا به ليستقل بتجارته لنفسه.