يقول ويليم شكسبير "الدنيا مسرح كبير"، وقد يبدو الأمر مصيبًا حين تتأمل أحوال الناس وقصص العباد والبلاد ومرور الزمن عليها، فلا يسعك أحيانًا أن تصدق أن ما نمر به من أحوال سيئة هو واقع حقيقي حي، لا مسرحية تجري فصولها أمام جمهور قد يبكي وقد يضحك وفقًا للمشاهد المتناوبة أمامه، ويبدو أن "صاحب المآسي الكبرى" قد أراد من مقولته أن نتأمل الواقع جيدًا، كما يتأمل في مرآة، فنحن المادة الأولى كبشر للفنان.
تعلّمت أن أحذر قبل أن أشرب أي سم يفقدني من أحب، ولو كان فيه حل لكل مشاكلي دفعة واحدة
كم أعجبت خلال مسيرتي الدراسية بسيرة هذا الرجل وأعماله الأدبية الباهرة، شاهدت هاملت في أحلام يقظتي وهو يبارز بسيفه الأعداء وقلدته، صرخت كعطيل حين خانتني أول فتاة أحببتها وحطمت كل الشموع التي ذابت على شكل قلوب في خزانتي المليئة بالتذكارات الرومانسية، ثم ملأت نفسي بالشر مثل مكبث حين أردت أن أصبح قائدًا لمدرستي ولفرقتي الحزبية ولفرقتي المسرحية ثم ندمت، تعلمت ألا أكون متسرعًا ومغرورًا كالملك لير، وأن أحذر قبل أن أشرب أي سم يفقدني من أحب ولو كان فيه حلًا لكل مشاكلي دفعة واحدة.
والآن يا شكسبير كم أحلم لو أنك ما زلت حيًا لترى بأم عينك كم من القصص العجيبة قد أستطيع أن أريك، ولنبتدأ من مخيماتنا العربية التي باتت تحتل مساحات شاسعة على هذا الكوكب الأزرق، ولك أن تختار أي مكان يحلو لك، فمن مخيمات السوريين في تركيا إلى مخيماتهم في الأردن أو في لبنان، ومن مخيمات الفلسطينيين في لبنان والأردن وفلسطين نفسها إلى مخيماتهم المحاصرة في سوريا؛ ستغرق في قصصك الجديدة، وستتعرف على مئات تجار الدم واللحم الأسوأ من شايلوك، ستنسج آلاف القصص الغريبة عن عشق المساكين المحاصرين، ستغدو جولييت في قصصك غائرة الخدود والوجنات مشققة الأرجل، وسيتجول هاملت بين الخيام كذئب جريح نُفي من قبيلته وأرضه ووطنه وأضاع خيمة جولييته حين استشهد أخوه ثم أبوه، ثم قتلت أمه في حرب الإخوة الأعداء.
ستضحك ثم تبكي بدون أقنعة المسرح قبل أن تؤلف مشاهد كثيرة عن أولئك الملوك الذين استلموا زمام المعارضات لينهشوا من أموال الفقراء، وستبعث فرقك المسرحية لتضع الزئبق في آذاننا جميعًا أمامهم، كي يعلموا أنك تعرف وأننا نعرف جرائمهم، لكنهم سيكتفون بالتقاط الصور قرب أجسادنا، لأنهم أكثر وحشية وقباحة من عم هاملت يا شكسبير.
ولك أن تغادر ساعة تشاء المخيمات وتعود إلى أوروبا بدون أن تقلق من الحصول على فيزا، لأنك أوروبي، لكنني أنصحك بأن تستقل أحد تلك القوارب التي تحمل الهاربين من حمى الحروب عبر البحر المتوسط إلى الموت، وستدرك كم كانت رحلات عطيل سهلة في عودته من حروبه، وكم كان أنطونيو، تاجر البندقية، محظوظًا بأن سفنه التي غرقت كانت محملة بالبضائع لا بأرواح المحبين والأهل، سيموت قربك الكثيرون ولن يجدوا أحلام ليالي الصيف الجميلة التي كتبت عنها، ولن يعرفوا تلك الغابات السحرية التي مرح بها عشاق الجن، وستحتضن كل من سينجو في عمليات الإنقاذ التي قد تحملك لغرفة في "كامب" دافئ وهادئ كالكامب الذي أكتب لك منه الآن.
لا أعتقد أن السؤال هو "أكون أو لا أكون" كما كنتَ تظن يا شكسبير، أظن من الأفضل القول "نكون أو لا نكون"
ستشرب قهوة جيدة في وطنك المؤقت الجديد، وتتأمل حركة السحب السريعة كشاعر مات وعاش مرات عديدة، ثم ستبدأ بكتابة مسرحية جديدة على كمبيوتر صغير أمامك، مسرحية تتحدث عن مأساة أكبر من كل تلك التي سبق وأن كتبت عنها خلال حياتك المديدة، ولن تعوزك العناوين لأنها ستتبعثر أمامك كما تبعثرت دماء "بولونيوس" أمام الأمير هاملت حين طعنه، ثم ستحمل أوجاعك لتدفنها في مكان ما حيث دفن حفار القبور الأوروبي الحكيم الكثير من الجماجم القديمة في مقابر ليس لك فيها أقرباء، وهناك ستناجي أوفيليا العفيفة التي تتمثل في حنينك لوطنك الذي تعرف أنه قد ذهب إلى غير رجعة مع سحب محملة بالوجع لا بالمطر.
من كامب ما، في مكان ما، أكتب لك الآن يا شكسبير، راجيًا الله أن تبعث لي بنسخة إلكترونية من مأساتي التي قد تكتب عنها في موتك الأبدي، لأن الأحياء لا يفعلون الآن شيئًا سوى أن يتصورا قرب الجثث.
ملاحظة أخيرة: لا أعتقد أن السؤال هو "أكون أو لا أكون" كما كنت تظن، ولكنني أظن من الأفضل القول "نكون أو لا نكون".
مع محبتي الدائمة،
المعجب بك دائمًا،
بهلول الملاجئ.
اقرأ/ي أيضًا: