كيف لشاعر أن يبقى على قيد الإضافة والقدرة على مواكبة الأجيال الشعرية، التي أتت بعده؟ ذلك أن صفة "الشاعر" لا تُكتسب بالتقادم، بل بتجديد التجربة نصًّا وحسًّا؟ يقترح الشاعر الجزائري بوزيد حرز الله (1958) السفرَ حلًّا لهذا الرهان، فالبقاء في البقعة نفسِها، هو البقاء في الرؤية نفسِها أيضًا.
والسفر الذي يعنيه صاحب ديوان "مصابًا بلون الصّلصال"، الذي صدر هذه الأيام عن "دار العين، القاهرة 2016" لا يعني حمل الحقيبة والانخراطَ في الجغرافيا فقط، بل يعني تجديد العلاقة بالحياة ومفرداتها في كلّ حين أيضًا، أي أن نبرمج أنفسنا على الشغف والدهشة، فكأننا نمارس الفعل، أيّ فعل، ونقترف المتعة، أي متعة، للمرة الأولى، بما في ذلك كتابة قصيدة.
كيف لشاعر أن يبقى على قيد الإضافة والقدرة على مواكبة الأجيال الشعرية، التي أتت بعده؟
اقرأ/ي أيضًا: علي أزحاف.. كريستالية الشعر
هنا، يصبح الارتباط بالأرض والطفولة، بوصفهما زمكانوسًا، زمان ومكان وناس، وذاكراتٍ خلّاقة تستفزّ اللحظة الشعرية في الحاضر ولا تؤطّرها بالماضي، معطى ضروريًا لإبقائنا قربين من سماء الشعر، ولعلّ هذا ما يُعطي لعنوان الديوان معناه. حين يمرض الشاعر بلون ترابه، كما يمرض العاشق بعشق أنثاه، حيث يصبح الفعل "مرض" بمعنى "عشق".
"استيقظ الليلُ قبلي
ليُرافقَني
في سفرٍ محتملٍ هذا الصباح".
لا ندري هل يُسافر حرز الله أم يكتب الشعرَ، فهو من النوع الذي لا يعلن عن سفرياته إلا بعد أن يعود منها، أي بعد أن يحوّلها إلى نصوص، عادة ما تكون ومضة، يقطع بحارًا وجبالًا ومطاراتٍ، ويُجالس الغريباتِ والغرباءَ، الغربة هنا بوصفها حالة نفسية، ليختزل ذلك في بضع كلمات، بما يشي أن فلسفته تقوم على أولوية العيش على الكتابة، وهذا ما يفسّر قلة إصداراته بالمقارنة مع عدد سنواته، فعلها في ديوانه السابق "بسرعة أكثر من الموت"، وها هو يكرّرها في ديوانه الجديد.
يعود المسافرون من المدن التي يزورونها، ببطاقات مصوّرة تذكّرهم بها، ويعود الشاعر بومضات تحملها إلينا. هنا، أبادر إلى القول إن تكثيف مدينة في ومضة، شبيه بأن نتناول كبسولة عوضًا عن سفرة الطعام، حيث يتحول الهدف من الاستمتاع بالأكل، إلى ضمان البقاء على قيد الحركة، تفرّغًا لمتع أخرى، منها متعة التأمّل.
"قدمي
تكتم أسفاري أحيانا
وتفشيها أحذيتي المهترئة".
لا يحوم ديوان "مصابًا بلون الصّلصال" حول الأنثى بل فيها، ولا يقدّمها بل يتقدّم بها
اقرأ/ي أيضًا: "أجمل نساء المدينة": فانتازية بوكوفسكي
يتداخل السفر في المكان بالسفر في الإنسان، فلا نفرّق بينهما، حتى أننا نستطيع اعتبار محمد شكري، مثلًا، هو طنجة، وعبد الله الهامل هو الصحراء، وعادل صياد هو البحر، وشيراز هي البيت، ونصيرة هي المدينة. إن الاحتفاء باللحظة يمحو الفارق بين المكانيّ والإنسانيّ، ويعلو بها إلى مقام يجتذب قصيدة بوزيد حرز الله ويغريها بالانكتاب.
"عبد الله الهامل
لا يخاف الله
إنه يحبّه".
لا يكتب ديوان "مصابًا بلون الصّلصال" عن الأنثى بل يكتبها، ولا يحوم حولها بل فيها، ولا يقدّمها بل يتقدّم بها، فالكتابة عنها نفي لها، والحومان حولها يعني كونها ضحية محتملة، وتقديمها يعني السيطرة على هويتها. يسأل: "هل ثمّة ما يدعو إلى الصحو، وأنتم تعتقدون أن التاء مربوطة؟". إن تاء التأنيث في "ملّته واعتقاده" مفتوحة، وما على الذات المذكّرة إلا أن تكون أكثرَ انفتاحًا، حتى تجني ثمار اللقاء. "بكل حواسي أراك حين تتأخرين"، فماذا عن حضورها؟
اقرأ/ي أيضًا: