على الرغم من الحرب الأهلية اللبنانية التي بدأت العام 1975 ودمّرت لبنان وبيروت، وعلى الرغم من احتلال نظام حافظ الأسد لبنان 1976 وتحويله إلى مكان لقمع الحريات والناس، وعلى الرغم من اتفاق الطائف 1989 الذي قسّمه إلى مناطق موزعة بين أمراء الحرب والميليشيات الطائفية، وغيرها من الكوارث التي فتتت البلد والمجتمع، إلا أن الصورة التاريخية التي تم رسمها للبنان منذ القرن التاسع عشر باطراد ولغايات مختلف: اقتصادية، مصرفية وكولونيالية، لم تكن لتتغير، وذلك لشدة رسوخها بين اللبنانيين، فقد تعاملوا معها ليس بوصفها استعارات بل حقائق! وأيضًا لشدة رسوخها دوليًا وعربيًا، فهي "سويسرا الشرق"، مدينة أوروبية في نظر العرب، ومدينة شرقية (مصابة) بالحداثة في نظر الغرب.
كان السوريون يعرفون النوّاب في البرلمان اللبناني واحدًا واحدًا دون أن يعرفوا في المقابل اسم رئيس مجلس الشعب السوري ولا الوزراء في حكومة النظام!
وقد تم تكريس تلك الصورة وإعادة إنتاجها مرة تلو المرة بنصوص ثقافية أضفت طابعًا خاصًا على لبنان، مختصرة إياه في بيروت ومختصرة بيروت في الميناء ووسط المدينة، وقد انبثق عن تلك النصوص ما يمكن تسميته "لبنان الأسطورة"، وهو ما ساهم في ظهور قوي لـ"الفينيقيين الجدد" أمثال: شارل قرم، ألفرد نقاش، البير نقاش، فؤاد خوري، جاك ثابت، سعيد عقل، وميشال شيحا... وهذا الأخير صحافي وسياسي ومصرفي ومن المؤسسين للسرية المصرفية 1956 تشبهًا بالعمل المصرفي السويسري، واستعارة سويسرية تمنح الثقة بإمكانية إخفاء المال المشبوه!
اقرأ/ي أيضًا: بيروت تنتفض غضبًا
بلغ عمل الفينيقيين الجدد على بعث فينيقيا حد اعتبارها هوية ثقافية وقومية خاصة وليست عربية. وقد بلغت قوة صورة بيروت كأسطورة مبلغًا لا يمكن مضاهاته عندما تحولت إلى واقع في خمسينيات القرن العشرين وستينياته حتى الحرب الأهلية، ثم دخول جيش النظام السوري، ثم اقتسام لبنان بين أمراء الحرب وظهور حزب الله بصفته الضربة الأكثر إيلامًا لصورة بيروت ولبنان ولواقعهما كـ"ميزة" ثقافية، حضارية.
بعد موت المستبد الشمولي حافظ الأسد، زرتُ بيروت. لطالما عرفت بيروت هذه عبر الكتب والصحافة وكلام الأصدقاء الذين لم يتوقفوا عن زيارتها بوصفها المكان الذي يستطيعون فيه أن يكونوا أحرارًا من همينة النظام السوري على حياتهم.
شعبيًا نعرف، كسوريين، بيروت ولبنان عبر القنوات التلفزيونية الفضائية الموزعة بين اهتمامين: حفلات لا تتوقف وكأنها مستمرة على مدار الساعة، بصخب وضحك ورقص وفرح وثراء... ومشاجرات السياسيين ونقاشاتهم وانتقاداتهم بعضًا لبعض وشتائمهم. كنا كسوريين نعرف النواب في البرلمان اللبناني واحدًا واحدًا تقريبًا، وكذلك الوزراء، ونعرف انتماءاتهم وتوجهاتهم، وكنا نحب أحدهم أو نكرهه بحسب علاقته مع النظام السوري وأجهزة مخابراته، فيما لم نكن نعرف اسم رئيس مجلس الشعب السوري ولا الوزراء في حكومة النظام!
ذهبت إلى بيروت مرتبكًا، فقد كنت أسير تلك الصورة المشعّة، وكانت بالنسبة لي كما هي بالنسبة لكثيرين: الحلم. ذهبت كعاشق سيقابل حبيبته لأول مرة، سيراها لأول مرة، لكنّي تقريبًا لم أجد شيئًا من بيروت الصورة، كانت بيروت الواقع واضحة إلى حد صادم. لم أجد العمران اللبناني الذي تحدث عنه سليم البستاني في عصر النهضة، حيث كان يرى أن العمران هو المدخل للحضارة والحداثة، ولم أر الصخب والمرح والثراء التي كانت تبثها المحطات... بدت "سويسرا الشرق" كأنها حارة مهملة من الحارات "الراقية" في دمشق! سألني الشاعر الراحل أنسي الحاج فيما إذا كانت أعجبتني بيروت. فأجبته: قبل أن أراها، نعم! لم يبد عليه استغراب من الإجابة، بل قال: معك حق، هذه ليست بيروت سعيد عقل، هذه بيروت حافظ الأسد. آنذاك كان يجري في لبنان نقاش كبير يتمثّل في ضرورة خروج الجيش السوري من لبنان بعد موت الأسد المتوحش، وقد أخبرني أنسي الحاج أنه كان في هذا الحديث مع أصدقائه قبل أن ألتقيه بدقائق، وعندما شردت الذهن سألني مازحًا: ألا تريده أن يخرج؟ قلت له: المشكلة أنه سيخرج من عندكم وسيعود إلينا. ضحك وقال: هذا جيشكم أنتم، تصرفوا معه.
يستدعي العلم الأصفر لحزب الله إلى الذاكرة مباشرة العلم الذي كان يُرفع قديمًا على السفن المصابة بالكوليرا كي لا تتوقف في أي مكان
السائق الذي أقلني في طريق العودة كان غاضبًا بسبب غلاء البنزين آنذاك، لم يتوقف عن الحديث عن فقر اللبنانيين وفساد مسؤوليهم. توقف في كازية ليتزود بالبنزين حيث اجتمع، ريثما يأتيه الدور، بزملائه، وهنا بدأت حفلة مدوية من الشتائم التي وجهت للحكومة والنواب والوزراء، وبصفة خاصة لرئيس الجمهورية آنذاك، إميل لحود. حدث نوع من المبارزة بين السائقين في شتم رئيس الجمهورية، وكانت بالفعل كل شتيمة أقوى من الأخرى! بالنسبة إليّ كسوري، كانت شتيمة رئيس الجمهورية، الأسد الأب أو الابن، تبدو انتحارًا، موتًا محققًا، ما جعلني أشعر بنوع من ارتخاء المفاصل، وبرجفة، توسعت فتحتا أنفي كأنما تنفسي على وشك التوقف وأريد مزيدًا من الهواء، نظرت حولي في كل الاتجاهات كأنما أريد إعلان براءتي من تجرئهم و"وقاحتهم". الرئيس؟ تشتمون الرئيس؟ كسوري ليس فقط شتم الرئيس جريمة، بل شتم أي مسؤول، أو حتى الكلام في السياسة خارج السياق الرسمي. لكن الذي حدث، أن جاء دور السائق فتزود بالبنزين وانطلق. بدا الأمر عاديًا، لم يعتقله أحد، ولم يتشاجر بسبب ذلك مع أحد، وهو ما بدا لي كسوري محكوم من أكثر الأنظمة توحشًا عبر العصور، سببًا كافيًا لتكون بيروت، ويكون لبنان حلمًا! إلا أن اللبنانيين الذين يشتمون رئيسهم وساسييهم بلا حسابات، لا يستطيعون شتم النظام السوري ورئيسه ولا حزب الله ورئيسه، فقد شكّل الأسد وحسن نصر الله رمزين ثابتين من رموز القمع والتوحش والإرهاب للبنانيين كما للسوريين.
اقرأ/ي أيضًا: "مزاد الخسائر" في مرفأ بيروت.. مفتوح على كل الاحتمالات
نهايات العام 2013 عشت حوالي عشرة أيام في بيروت. أمام البناء الذي قطنت فيه كان هناك علم أصفر كبير لحزب الله. علم أصفر ولحزب الله؟ ذلك يستدعي إلى الذاكرة مباشرة العلم الأصفر الذي كان يُرفع قديمًا على السفن المصابة بالكوليرا كي لا تتوقف في أي مكان. بدا لي أن ذلك العلم هو علم الكوليرا الذي يرفع في لبنان، الكوليرا التي أصابت لبنان بشكل حاسم منذ وصول حزب الله إليه وسيطرته على الحياة السياسية والعامة فيه. العلم الذي يرفعه الحزب دائمًا ولدى كل كارثة يقوم بها هناك، العلم ذاته الذي ارتفع في سوريا على أشلاء الناس وركام البيوت المهدمة فوق رؤوس ساكنيها.
الآن، وقد تم تفجير مرفأ بيروت، المعلم التاريخي الذي ساهم برسم الصورة المضيئة لهذه المدينة في أذهان اللبنانيين والعالم، فإن ذلك تم بنترات الأمونيوم التي كانت تجثم على صدور اللبنانيين محمية بعلم كوليرا حزب الله الأصفر، علم الموت.
اقرأ/ي أيضًا: