"الجينجا Ginga" روح الكرة البرازيلية
في القرن السادس عشر، وبهدف الوقوف في وجه اضطهاد البرتغاليين، ابتكر سكان البرازيل الأصليون ما عرف بـ"الجينجا" وهي مجموعة من الفنون القتالية الدفاعية التي تتطلب الخفة والمرونة والسرعة والقوة. ومع مرور السنوات تحوّلت الجينجا إلى نوع من الفولكلور الشعبي، وبات الفتيان يتبارون في استعراض مهاراتهم في القفز في الهواء والرقص والقيام بالحركات الخطيرة، وحظيت هذه الاستعراضات بشعبية جارفة في البلاد.
"السحرة" هو اللقب الذي أطلق لاحقًا على لاعبي المنتخب البرازيلي بسبب الجينجا
وعندما قامت السلطات بحظرها لما تشكله من خطورة على سلامة ممارسيها، وجد هؤلاء البديل المناسب: "الجينجا من خلال كرة القدم"، مداعبة الكرة والرقص بها في الأزقة وفوق السطوح وقرب المستنقعات. وعندما رأى الأوروبيون كرة الشوارع هذه والاستعراضات التي لا تصدق، ظنوا أنهم بحضرة سحرة. "السحرة" هو اللقب الذي أطلق لاحقًا على لاعبي المنتخب البرازيلي.
اقرأ/ي أيضًا: يد الله وقبلة الشيطان
1950 - 1958: بداية الأسطورة
زحف مئتا ألف برازيلي إلى استاد الماراكانا ليشهدوا تتويج منتخب بلادهم بكأس العالم للمرة الأولى عام 1950. كل المعطيات في ذلك اليوم كانت تشير إلى أن المنتخب البرازيلي لا يقهر خاصة مع استخدام أسلوب الجينجا الباهر. ولكن كان للاعبي الأورغواي رأي آخر. انقلب السحر على "السحرة". خسرت البرازيل وسط ذهول الجميع، وارتجّت البلاد كلها بعد الخسارة. لم يكن أحد يتوقع ما حصل. شعر الشعب بالخزي والعار بعد المباراة.
شاهد إيدسون دو ناسيمنتو Edson De Nasamento، ابن التسع سنوات والده يبكي للمرة الأولى في حياته، فقال له: "لا تبكِ يا أبي، سأجلب الكأس للبرازيل في يوم من الأيام". إيدسون هذا هو نفسه "بيليه Pele" أيقونة كرة القدم العالمية. في هذا اليوم أيضًا اتُّخذ قرار كبير في البرازيل: لا عودة إلى الجينجا بعد اليوم والبدء بلعب كرة قدم منضبطة واحترافية أسوة بالآخرين.
عندما شاهد أحد كشافي نادي سانتوس Santos العريق الفتى بيليه يلعب الكرة مع أترابه في أحد الأزقة، وجّه له دعوة للمشاركة في اختبارات النادي العريق. لم يكن ابن الرابعة عشرة يومها قد لعب كرة القدم بالمعنى الحقيقي من قبل، أي على ملعب مستطيل بحضور حكام ومع ارتداء أحذية رياضية لركل كرات مطاطية بالمواصفات المطلوبة وما إلى ذلك. كل ما في الأمر أن الفتى الأسمر كان ضمن مجموعة من ماسحي الأحذية تحوّل أيّة مساحة فارغة إلى ملعب لكرة القدم وتداعب بأقدامها العارية ورؤوسها وصدورها الضامرة كل ما تقع عليه أيديها سواء كان عبوة من التنك أو ليمونة أو حبة مانغو.
في سانتوس، واجه بيليه مشاكل كبيرة في الاندماج مع أسلوب الأكاديميات. تلقى توبيخات مدربيه هناك: "أَخرج الجينجا من رأسك والعب كرة عصرية". ورغم ذلك كانت مهاراته تجبرهم على الاحتفاظ به وتم ترفيعه بأوقات قياسية ضمن الفئات العمرية وصولًا إلى الفريق الأول.
في 1958، فازت البرازيل عل السويد 5-2 بعد أن قدم بيليه وغارنشيا وزاغالو والآخرون أداءً مبهرًا
عندما أعلنت قائمة اللاعبين المسافرة إلى مونديال السويد 1958 لم يكن بيليه قد أنهى السابعة عشر من العمر، ولم يكن قد مضى عامان على مغادرته المنزل والالتحاق بسانتوس. بمعنى آخر لم يكن قد مضى عامان على بدء ممارسته كرة القدم التقليدية. كان أصغر لاعب في تاريخ المونديال.
اقرأ/ي أيضًا: لم كان بورخيس يكره كرة القدم؟
قبل السويد 1958 لم يتمكن أي منتخب من خطف المونديال خارج قارته. دخل السويديون المباراة النهائية ضد البرازيل بمعنويات عالية إذ كانت كل الظروف إلى جانبهم. قبل يوم من المباراة النهائية، واستنادًا على الهاتريك الذي سجله بيليه في نصف النهائي ضد فرنسا، بعد لجوئه إلى الجينجا، بدون العودة إلى المدرب، ليقلب الطاولة على الفرنسيين، فاجأ مدرب البرازيل لاعبيه بالقول: "لو لعبنا كرة تقليدية سيتفوقون علينا فهم أفضل منا بدنيًا وتكتيكيًا، سننزل إلى الملعب غدًا لنستمتع وليستمتع العالم بأسلوبنا، العبوا الجينجا فكُرتنا هي للفرح والفرجة".
فازت البرازيل عل السويد في النهائي 5-2 بعد أن قدم بيليه وغارنشيا وزاغالو والآخرون أداءً مبهرًا، جعل كل مَن في الملعب يقف ويصفق لهم وفي مقدمتهم ملك وملكة السويد. كان ذلك مونديال بيليه بامتياز.
الملك رقم 10
كرّس مونديال السويد لقب البرازيليين كـ"سحرة" كرة القدم. وصلت شعبيتهم إلى أقاصي الأرض. وصارت المعادلة كالتالي: "الجينجا في وجه كرة الأوروبيين بانضباطها وقوتها وصلافتها".
أصبح نجمهم بيليه الملهم لملايين الأطفال والفتية حول العالم، وبات الرقم 10 يرمز إلى نجم الفريق الأول الذي تتمحور اللعبة حوله. الرقم الذي حمله لاحقًا مارادونا وميسي وزيدان وآخرون، اشتهر تحديدًا بسبب بيليه.
ليس الإعجاز في تسجيل ألف هدف مثل بيليه، الإعجاز هو حتى في تسجيل هدف واحد كأهدافه
تحوّل بيليه إلى كابوس يؤرق كل الفرق التي ستواجهه، وعندما تبيّن عدم جدوى كل الخطط الدفاعية لإيقافه لم يتبقّ أمام منافسيه سوى اللجوء إلى العنف ضده، وقد نجحت التدخلات العنيفة والمتعمدة في إبعاده عن آخر مبارتين في مونديال تشيلي الذي فاز فيه البرازيليون رغم ذلك، بينما صب لاعبو بلغاريا كل جهودهم لجعل بيليه يخرج مصابًا في افتتاح مونديال 1966 باكرًا في زمن لم تكن قوانين الكرة تحمي النجوم الكبار كما هو الحال اليوم.
اقرأ/ي أيضًا: جولة حول "معارك" كرة القدم
عاد الملك بيليه مرة أخرى، في نهائي 1970 في مكسيكو. وبعد 12 عامًا على ليلة ستوكهولهم قاد بيليه البرازيل للفوز على إيطاليا 4-1. عن تلك المباراة يقول المدافع الإيطالي تارشيزيو بورغنيش الذي تولى مراقبة بيليه: "قبل المباراة عملت على إقناع نفسي بأن بيليه في النهاية مجرد رجل مؤلف من جلد وعظام لكنني اكتشفت أنني كنت مخطئًا".
سجل بيليه خلال مسيرته 1281 هدفًا، أكثر من أي لاعب آخر. يقول الشاعر البرازيلي كارلوس دي أندرادي: "ليس الإعجاز في تسجيل ألف هدف مثل بيليه، الإعجاز هو حتى في تسجيل هدف واحد كأهدافه".
اعتزل بيليه كرة القدم في العام 1977. في العام 1995 أصبح وزيرًا للرياضة في البرازيل. اختارته اللجنة الأولمبية في العام 1999 كأفضل رياضي في القرن.
الكثير من المواقف التي يطلقها وانتقاده للاعبين الآخرين تثير الجدل باستمرار وتلقى ردات فعل سلبية، لكنه يبقى "بيليه" في النهاية، الأيقونة التي ألهمت العالم كرويًا لعقدين من الزمن والتي جعلت السير بوبي تشارلتون بطل مونديال 1966 يعترف: "أشعر بأن كرة القدم وُجدت لأجل بيليه".
اقرأ/ي أيضًا: