لدى السوريين والمهتمين بشأن الثورة السورية إحساس عام بعدم جدوى المفاوضات المنعقدة في جنيف، فقد تم عقد مفاوضات سابقة في المكان ذاته ولم تؤد إلى أية نتيجة إيجابية على الأرض، بل على العكس، فإن الوضع السوري يزداد صعوبة وتعثرًا بعد كل مؤتمر لأجل سوريا، مفاوضات أو غيرها.
الاحتلال الروسي جاء بمباركة دولية حتى من "أصدقاء الشعب السوري" بزعم مكافحة الإرهاب
ما يميز المفاوضات الحالية أنها الأكثر استحالة. فالاحتلال الروسي جاء بمباركة دولية حتى من "أصدقاء الشعب السوري" بزعم مكافحة الإرهاب، مع الإقرار الدولي أن ما نسبته أقل من 10% من الهجمات الروسية يطال داعش، والنسبة الباقية تستهدف المعارضة التي يقر العالم أنها معتدلة، والمدنيين وفق ما يسمى: البيئة الحاضنة للإرهاب. إضافة إلى التوجه الأوروبي أيضًا بمكافحة الإرهاب انطلاقًا ، كذلك، من سوريا خاصة بعد الهجمات على باريس.
الأمر الذي جعل الاحتلال الروسي لسوريا مشرعنًا دوليًا وإن كان لم يحز، بعد، على قرار دولي يشرعنه قانونيًا، وهذا ما أعطى الروس إمكانية في أن يكونوا مقررين وليسوا مجرد طرف مساعد للنظام، وقد تجلى ذلك في إنذار كيري للهيئة العليا للمفاوضات بأن عليها الذهاب إلى جنيف وفق الشروط الروسية، ووفق المبادئ الأربعة الإيرانية القاضية بتعديل الدستور وإجراء انتخابات يحق للأسد الترشح إليها وغيرها... وإلا ستفقد دعم "أصدقائها"! وبذلك وضع مستقبل المفاوضات أمام الجميع وبكل وضوح: مفاوضات لمكافحة الإرهاب باشتراك المعارضة الإرغامي. ومع أن المعارضة كلها إرهابية بنظر الروس والإيرانيين والنظام بالتبعية، فإن هذا يعني أن تشترك المعارضة مع أعدائها في قتل نفسها!
وقد استجاب ديمستورا، مبعوث الأمم المتحدة، على نحو فاضح، وربما غير مسبوق من مبعوثي الأمم المتحدة إلى مناطق النزاعات، للقرار الروسي بأن يكون ثمة وفد آخر يمثل المعارضة إضافة إلى الوفد الرسمي المعترف به وهو الوفد الذي انبثق عن مؤتمر الرياض تحت اسم "الهيئة العليا للمفاوضات" وذلك من حيث أن الروس لم يقبلوا هذا الوفد، واعتبروه وفدًا ممثلًا للإرهاب، فتم تشكيل وفد مواز من قبل ديمستورا تحت اسم "مستشارين"، وضم شخصيات يعتبرها السوريون الثوار وأنصار الثورة قربية من النظام أو أنها من ضمنه فعليًا، واقترحوا أنه يجب أن تكون ضمن وفد النظام ذاته كهيثم مناع وصالح مسلم.
كان موقف الهيئة العليا للمفاوضات على درجة عالية من الصعوبة والدقة، وينسجم بكل الحالات مع الظرف العام الذي تمر به الثورة
ضمن هذه الاعتبارات، كان موقف الهيئة العليا للمفاوضات على درجة عالية من الصعوبة والدقة، وينسجم بكل الحالات مع الظرف العام الذي تمر به الثورة وهو الأكثر قسوة وصعوبة منذ انطلاقتها على الإطلاق. إذ إنها أعلنت منذ البداية عن إنذار كيري، وأعلنت أنها لن تذهب ما لم ينفذ قرار الأمم المتحدة 2254، خاصة الفقرتين 12-13 منه، المتعلقتين بفك الحصار عن المدن والأحياء والكف عن سياسة التجويع التي يمارسها النظام وحزب الله، وقف العمليات العسكرية ضد المدنيين، والإفراج عن المعتقلين.
وقد ظهر هذا الموقف على أنه تحدّ للعالم المتواطئ، أوالشريك، حقيقة، في قتل السوريين. لاقى هذا الموقف تأييدًا واسعًا من أوساط السوريين: منظمات حقوقية ومجتمع مدني وأفرادًا، إذ إنه شكل لهم بوادر أداء سياسي معقول وصائب من معارضة اعتادت منذ تشكلها وتصدرها لتمثيل الثورة سياسيًا أن تكون مجرد كراكوزات بيد دول أخرى وبيد مصالح ضيقة بعيدة كل البعد عن آمال السوريين، وشعروا أن ذلك قد يشكل بداية لتفكير سوري حول ولأجل سوريا وليس لأجل لاعبين إقليميين ودوليين، مع الاعتبار أن نتائج عدم الحضور قد تكون، أيضًا، قاسية، أقلها اتهام المعارضة بعرقلة الحل السياسي، ما يعني استمرار الروس بقصفهم دون أية تعليقات، ولو خجولة، ولو أنها من باب رفع العتب، من أي طرف، خاصة الولايات المتحدة... مع الاعتبار، أيضًا، أن مؤتمر فيينا جعل كل من لا يشارك في المفاوضات إرهابيًا أو داعمًا للإرهاب وينبغي التعامل معه على هذا الأساس... ومع ذلك قبل السوريون موقف الهيئة بعدم الذهاب، أو الذهاب المشروط.
السوريون، والتاريخ، يتذكرون عندما قام غورو -المندوب السامي الفرنسي على سوريا- بإنذار السوريين بالاستسلام في تموز/يوليو 1920، حيث قام وزير الحربية آنذاك يوسف العظمة بالذهاب مع جيش صغير لمقاتلة فرنسا ومواجهة حملتها على سوريا انطلاقًا من بلدة ميسلون.
العظمة كان يدرك أنه لا يستطيع مواجهة فرنسا، لكنه فضل مقاومتها كي لايقال في التاريخ أن فرنسا دخلت سوريا دون مقاومة، كان يدافع عن القيمة إذًا. وبالفعل، استشهد هو وعدد من رفاقه 24 تموز/يوليو 1920، ودخلت فرنسا سوريا "منتصرة".
ما بين إنذار غورو وإنذار كيري يتطلع السوريون إلى خطوة تحقق لهم شهوتهم في العزة والكرامة
من حيث النتيجة فإن العظمة لم يحدث فرقًا عسكريًا، إلا أنه أحدث، ليس فرقًا على مستوى القيمة فقط، بل أمثولة لم يزل السوريون حتى وقت الناس هذا يشعرون إزاءها بالعزة، ويعتبرون الشهيد - وزير الحربية واحدًا من أهم السوريين في العصر الحديث. جميعهم، ربما، يحفظون وصيته بابنته ليلى عن ظهر قلب. ولم يقولوا فيما بعد أنه ما كان عليه أن يقاتلهم طالما أن النتيجة معروفة، وما كان عليه أن يستشهد، أو على الأقل، أن يتسبب في استشهاد رفاقه في معركة هو يعرف تمامًا نتيجتها. إذا إن الشعور بالعزة والرفعة والكرامة أمر يستحق التضحية.
في غمرة الخسائر والإرهاق وانحسار الأمل حتى حدوده الأخيرة لدى السوريين، بدوا بحاجة لتحقيق نصر يشعرهم بالعزة والكرامة مهما تكن النتائج، على الرغم من معرفتهم أن لا نتائج أكثر فجائعية مما هم فيه، وقد بدا موقف الهيئة يحقق لهم هذا الشعور ولو جزئيًا. ما بين إنذار غورو وإنذار كيري يتطلع السوريون إلى خطوة تحقق لهم شهوتهم في العزة والكرامة.
الآن، ذهبت الهيئة للمفاوضات، وأعلنت أنه ذهاب مشروط بتحقيق نتائج على الأرض أهمها تنفيذ الفقرتين 12-13 من القرار 2254. وعاد السوريون من جديد يتطلعون إلى ما يحفظ كرامتهم.
اقرأ/ي أيضًا: