يقول عمر الخيام في رباعياته: "إذا لم أنَل وردًا فحسبي شوكه.. وإن لم أنل نورًا كَفَت عندي النار/ وإن لم أكن شيخًا ببُردٍ وتكيةٍ.. فحسبي ناقوسٌ وديرٌ وزنّارُ".
كانت تكايا الصوفية بمثابة القنوات التي من خلالها يشارك المتصوفة في الحياة اليومية، وتعتبر أيضًا اللبنة الأولى لبنية الطريقة الصوفية
أتت "التكيّة" بمعنى رباط الصوفية. وهي مكان لإيواء الفقراء وعابري السبيل. وقد ورد في كتاب "تكايا الدراويش" لرايموند ليفيشيز، أن التكايا كانت "القنوات التي من خلالها يشارك المتصوفة في الحياة اليومية".
اقرأ/ي أيضًا: 6 من أبرز الأولياء المغاربة في مصر.. روحانية متصلة بين المشرق والمغرب
وكانت تسمى تكايا جمعًا للتكية، أو زوايا أو خانقات، وذلك بحسب المنطقة الموجودة فيها. وكان لكل تكية طقوسها الخاصة، ومحورها الذي هو شيخ التكية أو شيخ الطريقة.
وذكر ليفيشيز أيضا أن التكية تضم بشكل دائم أو مؤقت عائلة الشيخ وأتباعه ومريدوه، إضافة إلى عابري السبيل والمسافرين للحج إذا ما كانت في طريق الحج. وبحسب الباحث والمؤلف حامد ألغر، تعتبر التكية، اللبنة الأولى لبنية الطريقة الصوفية.
التكية.. البدايات الأولى للطريقة الصوفية
في أبنية التكايا تتجلى الطقوس كمًا وكيفيًا، وتداخلها وتشابكها مع الفنون. واعتمدت التكايا بشكل أساسي على شيخ التكية، الذي هو محورها روحيًا وماديًا، فبحسب قدرته على الحشد لها، كان حجمها ومعمارها.
وبشكل عام عكس معمار التكية مكانتها وأعداد التابعين لها والمقيمين فيها، ففي القرن الـ19، كانت التكية العادية تستضيف ما بين أربعة إلى سبعة من فقراء الطائفة، أي المتصوفة، أما التكايا الأكبر حجمًا فكان يقطنها من الـ30 فأكثر. وكثيرًا ما حدث، أن انتقل المقيمون في التكية، من تكيتهم لأخرى، بحسب تغير أحوال الطريقة والحياة.
في مهب الريح
الطرق الصوفية في أشكالها الأولية، وباعتبارها إحدى مكونات المجتمعات التي تواجدت فيها، كانت عرضة للتغيرات والتحولات التي تسود المجتمعات من أعلى الهرم سياسيًا أو بنيويًا على المستوى الاقتصادي.
ولعل أبرز التحولات ذات التأثير الكبير في الطريقة الصوفية، هو الذي أشار إليه كتاب "هلال إنالسيك"، والمتمثل في فتح العثمانيين للقسطنطينية، الأمر الذي استتبعه توسع في إقامة التكايا، التي أخذت دورًا تعليميًا إضافيًا مكملًا للمدارس والكتاتيب وحلقات العلم.
وبذات الطريقة في التأثر بالمتغير السياسي، كان لتغير نظام الحكم في تركيا في بدايات القرن الـ20، أثره على التكايا بوضعها في مهب الريح، إذ كانت من أوائل قرارات الجمهورية التركية، إغلاق التكايا بعد وقف الدعم الحكومي لها، ومنع ظهور أيٍ من رموزها علنًا، ومحاصرة أدوار الصوفية في المجتمع، لتتحول التكايا منذ ذلك الحين إلى أطلال.
أثر التكية
في آخر 100 سنة لها، وصل عدد التكايا في إقليم واحد من أقاليم الدولة العثمانية، وهو إقليم أنطاليا، رقمًا يتراوح ما بين ألفين إلى ثلاثة آلاف تكية، وفقًا لما أورده ليفيشيز في كتابه.
وبحسب موقع التكية كان نمط تنظيمها معاشها، ففالريف غير المدينة والحضر، وكما كان الريف أفقر، كانت تكاياه أفقر، والعكس في المدينة.
وقد برزت تكايا عن أخرى بنفوذها في المجتمع، وحتى على المستوى السياسي، فمثلًا كانت تكايا الطريقة البكداشية، واحدة من أغنى التكايا وأكثرها نفوذًا. وقد لعبت دورًا مساهمًا في الاقتصاد العثماني، في حين اعتمدت تكايا أخرى على تمويل صناديق الأوقاف لها، وهبات السلاطين ورجال الدولة.
وعلى مدار سنوات طويلة، اكتفى مئات أو آلاف من المقيميين في التكايا، بالإقامة فيها وقد توفرت لهم كل سبل المعيشة الأساسية من مأكل ومشرب وملبس، ومأوى هو التكية. وكان ذلك سببًا لارتباط التكية في بعض المناطق مثل مصر، بالكسل وقلة الحيلة في العمل، وهي صورة ذهنية لا زالت حاضرة إلى الآن في العقل الجمعي المصري، رغم اندثار التكايا مفهومًا وممارسة.
التكية في مصر
يذكر الرحالة والمستكشف التركي أوليا جلبي، عن التكايا في القاهرة، وصفًا دقيقًا بعد أن تخصص في تتبع أثرها ورصد حالها في القرن الـ17 ميلاديًا.
ويعدد جلبي في القاهرة آنذاك، نحو 43 تكية، أبرزها: تكية الشيخ مرزوق الكفافي وتكية الشيخ الرفاعي وتكية عمر بن الفارض وتكية الشيخ شاهين وتكية السيدة نفيسة وتكية الشيخ الخلوتي وتكية السلطان طومان باي وتكية السلطان قايتباي، وغيرها.
وتعددت هيئات تكايا القاهرة وأحوالها ما بين فقر وثراء، امتدادًا لنفس وضعية التكايا في دول الخلافة آنذاك والمناطق التابعة لها. وكان من أبرز التكايا ذات الصيت بين طبقة الأعيان، تكية الشيخ إبراهيم الكلشني وتكية القصر العيني.
وأورد جبلي وصفًا لبعض الطقوس في بعض التكايا، مثل تكية الإمام الشافعي، فيقول إن عدد روادها إبان إحياء إحدى الليالي، وصل لستة آلاف شخص.
وفي حين كانت بعض التكايا مفتوحة لعموم الناس، تبدأ طقسها التقليدي بعد صلاة الجمعة بتلاوة سورة الكهف ثم الأوراد والأذكار فإنشاد الأشعار؛ كانت هناك تكايا مثل تكية الشيخ إبراهيم الكلشني، مقصورة على الأتراك، أعيان الدولة.
ويقول الجلبي عن بعض طقوس هذه التكية في ليالي الجمعة: "كانوا في كل ليلة جمعة يتلون سورة الملك، ويُتبعونها بالأوراد والأذكار، ويشتغلون بسماع الأناشيد وتوحيد الباري جهرًا في حلقة دائرية وبأيد متشابكة (الحضرة الصوفية)، ويعزفون على الناي، ويبخِّرون الخانقاه بالعود والعنبر، وينثرون ماء الورد على وجوه الزائرين، ويقدِّمون مشروب السُكّر، ويرد المنشدون بعضهم على بعض، وبينما هم كذلك يشرع أحد الذاكرين في الغناء برباعية أو خماسية من أشعار فضولي أو الروحي البغدادي أو عرفي أو عمر الخيام".
تقريبًا لم يعد الآن للتكية وجود، مفاهيميًا وممارساتيًا، واستبدلت بأنماط أخرى لتجمع أهل الطريقة الذين شغلتهم الحداثة عن التفرغ لطلب العرفان
في العصر الحالي، لم يعد تقريبًا للتكية وجود، مفاهيميًا وممارساتيًا، واستبدلت بأنماط أخرى لتجمع أهل الطريقة الذين شغلتهم الحداثة عن التفرغ لطلب العرفان، فهناك المضايف أو دروس العلم والحضرات المقامة في بعض الزوايا أو عند مقامات الأولياء والصالحين. وما تبقى من التكايا، تحول إلى مزارات سياحية، أو أطلال على هامش المدينة تحكي تحولاتها.
اقرأ/ي أيضًا:
الزاوية التيجانية.. قِبلة العشاق ومورد النُسّاك في الصحراء الجزائرية
بالصور من ساحة المولد النبوي.. مشاحنة دراويش السودان ورقصهم الأخضر!