"هل تُنقذني من همجية الأشياء وعفونة الأغلال؟ وهل تشكّل في نهاية المطاف انخطافي إزاء عالم بدأ ينكشف، ويتكشّف. أملي أن تصبح الكتابة هي الأخرى هذا العالم المضاد ولكن؟"
- من رسالة بختي بن عودة (1961 - 1995) إلى صديقه الشاعر عبد الحميد شكيل.
1
تنتابُني هذه الأيام شكوكٌ كثيرة بشأنِ "الكتابة"، تُعودُ حينَ يجِنُّ اللَّيلُ وتنعدمُ أسبابُ الخروج من البيت، من الحالة، ومن كلِّ ما يُطوِّق محاولاتِ استنشاق هواءٍ حرٍّ مثقلٍ بالنِّيكوتين، مليءٍ بالهواجس. واحدةٌ منها، مثلًا: أن يموت تشارلز سيميك، الشاعرُ الذي أتخيَّلُني أتقاطعُ معه في شارعِ مدينةٍ ما، في أمريكا. سوفَ لن أستوقفه لألتقط صورةً لي معه، ولا أن أخبره بأنني كتبتُ قصيدة بدأتها بالتالي: يقولونَ إنَّكَ شاعرُ كولاج! سأتركهُ يمرُّ باسِمًا إلى وجهتهِ، كما سأفعلُ بدوري، محاولًا تصيُّدَ الكلمات التي تدور في رأسهِ حينها، في ذلك العُمْر، وفي بلدٍ باتَ الأوَّل في عدد الإصابات بالجائحة، سيكونُ للكلماتِ، طبعًا، أجنحة بيضاء صغيرة، وقد تخرجُ مرتديةً كمَّاماتِ زرقاء، بلونِ سماء ذلك اليوم الذي لن يأتي.
ما الذي سيحدثُ لأحلامنا التي أخفيناها وراءَ زجاجٍ معتمٍ، عازلٍ للصوت، حتّى لا يسمعها أحد؟
بعد وفاةِ الرِّوائي التشيلي لويس سيبولفيدا، أحد كتّابي المفضلّين، بفيروس كورونا. وجدتني في مواجهةِ مباشرة مع شكوكٍ، ستبدو كمقدِّمة لشيءٍ آخرَ أكثرَ خصوصيّةً، لا أدَّعي من ورائهِ التماسَ حدود المعرفة، أو تطويقَ الفضاء العامّ بأفكار لطالما كانت مُتداولة، وصرَّحتُ برأيي فيها من خلال مساءلةٍ متكرِّرة حول الشِّعر، والكتابةِ الشِّعرية. ولأستدرك: حتّى النَّدم عمّا صرَّحتُ به جائز ما دمنا نتحدّث عن أفكار.
اقرأ/ي أيضًا: مكتبة ابتسام الوسلاتي
سأقتبسُ هنا من بيسوا، وأنا أفكر في "جحيم أن أكون أنا"، في زمنٍ جزائريٍّ يتكلَّسُ يومًا بعدَ يوم، وأحتاجُ للإفلات من قبضته، الضياع في جغرافيات خريطةٍ تغويني دروبُها الغامضة ومطبّاتها الخطيرة، والتي لم ولن أنجو منها كشاعر. وها "أنا" أو ما يُمكنُ تجميعه، منذُ عقدٍ من الزمن (زمن صدور كتابي الأول) من أفراحٍ صغيرة، لا تعدو أن تتحوَّل إلى ابتساماتٍ مُصطنعة، يرسُمُها طفلٌ حزينٌ على أطراف أصابعِ يده، ويلوّح بها للعالم.
2
تطولُ بي الساعاتُ وهي قصيرةٌ/ وفي كلٍّ دهرٍ لا يسرُّكَ طولُ، يهجمُ عليَّ بيتُ أبي فراسٍ الحمداني، وأنا أحصي الخيبات، الواحدة تلو الأخرى، ولن أكملَ قول الحمداني، "تَنَاسَانيَ الأصْحَابُ"، حتّى لا تتحوَّل هذه الورقة إلى مرثية، وأنا أنقلُها إلى الحاسوب من دفترِ كتابةٍ يُلازمني أينما كنت، حتّى في زمن الحجر المنزلي، في المطبخِ أو غرفةِ النَّوم أو المكتب المُعقَّم بالنِّيكوتين؛ جُملٌ تلوَ جملٍ، رسوماتٌ وخربشةٌ يوميّة، أحترمُها لسببٍ واحد: لا تتدَّعي أنَّها ذات شأن.
سأبدو وكأنّي لم أتحدَّث عن شيء، أعترف بذلك، مراوِحًا مكانيَ، والشكوكُ رفيقةُ عزلتي الحالية. أسأل، وأعيدُ صياغة الأسئلة، المرَّة تلوَ الأخرى، ما جدوى الشعر؟ لماذا نكتبُ؟ ما الذي يجري من حولنا؟ وما الذي سيحدثُ لأحلامنا التي أخفيناها وراءَ زجاجٍ معتمٍ، عازلٍ للصوت، حتّى لا يسمعها أحد؟
بشكلٍ ما، هي عزلةُ مكتظَّةٌ بما لم يعد مدعاةً للصمت. وأملي، كما يقول بختي، "أن تصبح الكتابةُ هي الأخرى هذا العالمَ المضادَّ ولكن؟". هذه الـ لكن، التي تستدعي نقاشًا من نوعٍ آخر، ربّما يستحيلُ أرضيةً أولى، مضادَّة للمُكرَّس، والمُمعَنِ في تكريسه بأدواتٍ وأساليب باليةٍ، لم تعد الأجيالُ الغاضبةُ تؤمنُ بها. وبالعودةِ إلى قصيدة "مُصَابي جَلِيلٌ، وَالعَزَاءُ جَمِيلُ" لأبي فراس، ستلتحقُ كلّ "العُصَيْبات الأخرى"، غدًا بـ "الجوّ" وتَحُوُل!
3
كشاعر أحبُّ التصريحَ الموارب، حين أتحدَّثُ عن الكتابة. لكن، في المقابلِ أدعو دائمًا إلى الكتابة الصَّريحة، عندما يتعلَّق الأمر بالحيّز الذي نتحرَّكُ فيه كمواطنينَ، قبل أن نكونَ مُبدعين. فما الدّاعي لارتداءِ الكمَّامة في زمن التّكميم؟ سؤال يستدعي كذلك مصطلحًا آخر، وهو "القناع" بوصفهِ أداة لإخفاء ملامح ما، لا نرغبُ في أن يراها الآخرون، وليلعبَ أصحابُها أدوارًا قديمةً/ جديدة على خشبةِ مسرحٍ، لا يحتاجُ إلى رفع السِّتار الذي مهما كانَ لونه غامقًا سيكشِفُ للمُتمَعِّنِ في "المشهد الثقافي" كلَّ كواليس المسرحية.
وعلى عادةِ الجماهير، دون الرجوعِ إلى سيكولوجيتها، سيكونُ هناك المصفقون، والمُطبِّلون، وأشباهُ المثقَّفينَ ممَّن يحتشدونَ وراءَ أبطال المسرحية، كما سيكونُ هناكَ المنكمشون على ذواتهم، والمُبعدونَ قسرًا، والمتشائمون الذينَ أحيانًا يكتفون بالصمتِ، وأحيانًا أخرى يغامرونَ بإعلانِ موقفهم من مبدأ ثوريٍّ، وإن بدا الحديثُ عن المبادئ في هذا الزَّمن المتكلّسِ يحتاجُ إلى مراجعةِ سردياتٍ كثيرة.
4
التموقُع أصبح جزءًا من اللُّعبة، هو حركةُ الجنديّ الجبان، الذي تدرَّب كثيرًا على حشدِ التبريرات لاتخاذ "موقفٍ"، والذي هو ليس سوى "موقعٍ" جديد، ضمنَ ما يُسمَّى بالسياقِ والراهنِ وطبيعة الظرف التاريخي، وما إلى ذلك من مصوِّغاتِ الدور الذي سيلعبه كدميةِ من قماشٍ، حُشيتْ على مدارِ العقدينِ السابقينِ بشعاراتٍ بائدة، وتَراهُ يتمسَّك ببقاياها كمصلحةٍ آنية أو امتيازٍ عابر يزولُ ويبقى أثرُه المعيب.
لا يحتاجُ الأمرُ إلى تفحُّصٍ عميقٍ، حتى تتبَّينَ خيوطُ الشَّبكة التي تُنسَجُ الآن، بالقواعدِ والحركاتِ ذاتها، لتصنع مشهدًا ظاهرهُ القطيعة مع ممارساتِ الماضي، ومحتواه بتكرارِ أخطاء هذا الماضي، سيبدو أضحلَ ممّا قد يكونُ طموحًا مشروعًا، جاء بعد سنةٍ كانت لتكون استثنائية وهي تعيدُ الأمل عبر شوارع استعادتْ ألَقَها بأمواجِ الحراكيين.
5
ما مِنْ جنَّةٍ هنا، والجحيمُ المتراكمُ حولنا يزدادُ اتساعًا، نحنُ الذينَ خدعَنَا الأفق، ولم ننتبه أين نضع أقدامنا على الخريطة. وفي المسافة الفاصلة بين "المأساة" و"الملهاة" سنكتشفُ أنَّ الأخطاءَ جسيمةٌ، وهي تتكرَّر اليوم بشكلٍ كوميدي، يعيدُ الحديث عن دور المثقّف وطريقة نضالهِ، من داخل المؤسَّسةِ أو خارجها، وكيف يحدثُ التَّغييرُ وهل يمكننا البحثُ في تربةِ الكتابة عن مناطق جديدة، وأخرى قديمة، غير مُكتشفة، طالَها النِّسيانُ والإقصاءُ المُمَنْهَج؟ مناطق، هي بالضرورة، مُلغَّمة، نمضي فيها بخطى مُغامِرَة، ونحنُ نرسمُ على الخريطةِ مساراتٍ لأجيالٍ بأكملها، نتقاسمُ معها عطبَ الذاكرة واللُّغة وصدمة الواقع، لتترك خطواتُنا أثرًا ما على أرضٍ صلبة.
في المسافة الفاصلة بين "المأساة" و"الملهاة" سنكتشفُ أنَّ الأخطاءَ جسيمةٌ، وهي تتكرَّر اليوم بشكلٍ كوميدي
اقرأ/ي أيضًا: الشعر على إيقاع بطء الزمن
في مفترق طرقِ الكتابةِ والحياة، أستعيدُ سؤالَ جدوى الشِّعر؟ ولا شيءَ يخرجُ في الإجابات المحتملة عن الحرّية، حرِّية خلخلةِ السائد، بعيدًا عن التصنيفات الجاهزة، ومُعسكرات الجماعات التي تتجاذبُ أطرافَ الثقافةِ المنغلقة. المسارُ شاقٌّ، وسبيلُه الأقرب إلى التصوُّر حوارٌ مفتوحٌ على الكتابة من داخلِ الكتابة، بتوصيفاتها القديمة والحديثة، بهذا الشعور الدائم بالخطر في نسفِ القناعات، والجماليات المتاحة بحكم التجربة الخاصّة، ليتكرَّر سؤالُ كيفَ أبني ذاتي في النصِّ وأهدمها؟ تلك الخفّةُ في العبور إلى بدايةٍ ما، والتحرُّر من قبضةِ أغلالٍ غير مرئية تكبحُ الفعل الإبداعي من التجدّد. أميلُ إلى نوعٍ من التأريخ لسيرة الكتابة، أو لأقل، حتّى لا أُتّهمَ بالادعاء، إلى مجاراة قلقٍ دائمٍ يسبقُ خروج النَّص، أيِّ نصٍّ إلى الوجود. هنا، وفي هذه الجدلية، والمراجعة المؤلمة لكلِّ "تعلُّماتنا" الإبداعية إن جاز التعبير، بنفيِها ودحضِها وإعادة صياغتها؛ كتابةٌ تتجاوز شبهةَ اسمِ صاحبها، لتُمسي تجربة خالصة ومتفرِّدة في الحياة. الحياة المتناثرة بالقرب منّا، كقطعٍ بازل ما من أحدٍ يستطيعُ تجميعها في مشهدٍ مكتملٍ ومثالي.
اقرأ/ي أيضًا: