يقول الأوروبيون: لنتخيل إمكانية الذهاب لتناول إفطار في باريس، ومن ثم الانتقال لتناول الغداء في فرانكفورت، ومتابعة الرحلة لتناول العشاء في فيينا، وكل ذلك في يوم واحد ودون تحمل مشقة الطيران وضغوطاته ومتاعبه.ولنتخيل أن شبكة من القطارات الحديثة فائقة السرعة والمريحة تتنقل بين كل مدينة رئيسية في الاتحاد الأوروبي، بما يوفر بديلًا مستدامًا عن السفر الجوي.
رحلة واحدة جوية بين باريس وبرلين تولد ستة أضعاف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المتولد عن رحلة مماثلة بالقطار
هذه الأحلام التي سال الكثير من الحبر في الكتابة عنها في أوروبا، قد تصبح قريبًا واقعًا من شأنه أن يغيّر حياة الملايين عبر القارة العجوز، وذلك بفضل رؤية 2050 للنقل عبر الاتحاد الأوروبي والتي سنستعرض بعض تفاصيلها في هذا المقال.
رؤية 2050 الأوروبية
على مدار الأربعين عامًا الماضيين، قامت العديد من الدول الأوروبية باستثمار المليارات بغية تسهيل السفر بالقطارات وبناء سكك حديدية حديثة وتأهيل البنى التحتية اللازمة. إلا أن هذه الاستثمارات اقتصرت إلى حد كبير على شبكات النقل الداخلي. حاليًا، تمتلك أوروبا آلاف الكيلومترات من السكك الحديدية عالية السرعة. فهناك شركة TGV في فرنسا، وشركة ICE في ألمانيا، وشركة AVE في إسبانيا، وهذه الشركات لديها رحلات ناجحة داخل دولها وخارجها، إلا أنها لا توفر المأمول منها لكفاية حاجة السوق الخارجية، ولا تحقق رؤية 2030 القريبة المدى ولا بالطبع رؤية 2050 بعيدة المدى.
لهذا السبب، اجتمع قادة صناعة السكك الحديدية الأبرز في القارة الأوروبية في مدينة ليون بفرنسا، وذلك بتاريخ 29 حزيران/يونيو من هذا العام، وحددوا خططًا أوروبية طموحة لمضاعفة استخدام السكك الحديدية عالية السرعة بحلول عام 2030، وكذلك مضاعفة نطاق الشبكة الحالية ثلاثة أضعاف بحلول عام 2050، وذلك عبر إنشاء طرق جديدة أو إنهاء العمل بطرق كانت قيد الإنشاء.
وشكل هؤلاء القادة هيئة تضم ممثلين عن الاتحاد الأوروبي والمجموعة الأوروبية للسكك الحديدية، وهيئة صناعة السكك الحديدية الأوروبية، ومجموعة "ALLRAIL" التي تمثل مصالح شركات سكك الحديد الخاصة. وستبحث الهيئة في كيفية الدفع من أجل تشييد عشرات الآلاف من الكيلومترات من الخطوط الجديدة.
ستتقصى الهيئة أيضًا كيفية وإمكانية إجراء تحول جذري في شبكة السكك الحديدية في القارة الأوروبية بشكل ينسجم مع تعهدات الدول الأعضاء بأهداف قمة المناخ المتمثلة في تخفيض نسبة انبعاثات الكربون بحلول عام 2050. فبحسب التقديرات، فإن رحلة واحدة جوية بين باريس وبرلين تولد ستة أضعاف انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المتولد عن رحلة مماثلة بالقطار.
وقد تتبعت الهيئة الفوائد العديدة لتوسيع شبكة السكك الحديدية عالية السرعة التي تربط العواصم الأوروبية والمدن الكبرى ببعضها البعض. المدير التنفيذي لمجموعة السكك الحديدية الأوروبية، ألبرتو مازولا، قال لشبكة CNN "إن الهيئة تريد خطة رئيسية كاملة توضح الفوائد الاجتماعية والاقتصادية لربط المدن الأوروبية بشبكة سكك حديدية فائقة السرعة".
تشمل الخطط أيضًا توفير التقنيات لحسن سير التشغيل مثل الإشارات الرقمية، وتشغيل القطارات التلقائي، والبيانات الضخمة وتحسين التذاكر. كلها أمور ستكون ضرورية لتحسين السفر بالسكك الحديدية وجذب ملايين الركاب الجدد. وتتمثل إحدى الأولويات في إنشاء منصة تذاكر مستقلة بحلول عام 2025 تجمع جميع الأسعار والجداول الزمنية المتاحة في جميع أنحاء أوروبا، وحيث يمكن دمج هذه المعلومات مع وسائط النقل الأخرى، مما يوفر للمسافرين معلومات "من الباب إلى الباب" ومن الألف إلى الياء، سواء كان ذلك بالقطار أو الحافلة أو الدراجة أو الترام وغيرها من وسائط النقل.
تحديات جمّة!
عندما تستثمر البلدان مليارات من اليورو في البنية التحتية الجديدة، فإن الضغط السياسي يبدأ بهدف تحصيل أقصى منفعة لدافعي الضرائب في تلك البلدان. لكن في المقابل، يصطدم بناء خطوط سكك حديدية دولية، حتى داخل الاتحاد الأوروبي، إلى خلق تساؤلات بين دول الاتحاد حول من يدفع مقابل ماذا، وكيف يتم توزيع العقود، والقوانين والمعايير واللوائح الوطنية المتضاربة، ومجموعة من العوائق الأخرى منها تضارب المصالح بين الدول والبيروقراطية والفساد في بعض الدول وارتفاع التكاليف بالنسبة لمواطني دول معينة دون دول أخرى.
كل ذلك شكل تحديات كبيرة أمام هذه الدول لإنجاز أهداف أكبر وأشمل. فتحقيق هذه الرؤية الطموحة دونه الكثير من العقبات والكثير من الجهود، سيما وكونها تتطلب توسعًا كبيرًا أكبر مما هي عليه خطوط سكك النقل الحديدية الأن، وكذلك تتطلب تسارعًا في بناء شبكة سكك حديدية، وخصوصًا الطرق التي تقف في وجهها عراقيل الطبيعة مثل جبال المدن التي تفصل بينها الجبال مثل جبال الألب مثلًا.
تشير التقديرات إلى أن السكك الحديدية الأوروبية خسرت أكثر من 52 مليار دولار خلال انتشار فيروس كورونا، ولم تسدّ التعويضات المقدمة من الاتحاد الأوروبي والحكومات الوطنية سوى 20% من تلك الخسائر الهائلة. الأمين العام لشركة ALLRAIL، نيك بروكس، يقول "نريد أن نرى قطارات عالية السرعة مع ألف مقعد تجوب أنحاء أوروبا وبعد رحلات أكبر"، ويضيف "سيؤدي هذا إلى أسعار منخفضة وعائدات مرتفعة".
وأما المتحمسون لمشروع السكك الحديدية العابرة للحدود، مثل جون وورث، فأشاروا بالقول "لم أر مشاريع ملموسة حقيقية حتى الأن، ولم أر جداول زمنية، لذلك سأحتفظ بالحكم"، وتابع بالقول "للأسف، سمعنا الكثير من الكلام من قبل، لكن ربما يبدو وكأن الحديث اليوم عن السكك الحديدية العابرة للحدود تبشر بالخير مرة أخرى"، ويشير إلى أنه بالرغم من أن "التجربة تخبرنا أنهم لا يستطيعون تقديم هذا النوع من الشبكات الكبيرة في الجداول الزمنية التي يقترحونها".
فوائد كبرى
في هذا السياق، وتعقيبًا على رؤية 2050، يتابع مازولا قوله "هناك الكثير من قصص النجاح في هذا المضمار، فهناك خط باريس-ليون وخط ميلانو-روما وخط برشلونة-مدريد وخط برلين- ميونخ". وتعتبر فرنسا من أكبر المستثمرين في أوروبا في هذا المجال حيث تمكنت من إقامة روابط جديدة مع جيرانها. فقد أنشأت طرقًا دولية إلى بلجيكا والمملكة المتحدة وألمانيا وإسبانيا، والأن هناك طريق قيد الإنشاء لربط المدن الفرنسية بشمال إيطاليا. وأما ألمانيا، التي تتشارك حدودها مع 9 دول أخرى، فسيكون لها دورًا رياديًا في شبكة سكك الحديد فائقة السرعة التي ستربط أوروبا ببعضها البعض.
لكن الفائدة الأكبر ستكون للدول التي لا تمتلك شبكة سكك حديد فائقة السرعة مثل جمهورية التشيك والنمسا وسلوفاكيا وبولندا، مما سيحدث ثورة في أوقات الرحلات بين مدن الدول المذكورة. ووفقًا لإحصاءات الاتحاد الأوروبي، فإن 17 طريقًا من أصل 20 طريقًا جويًا من الأكثر ازدحامًا في أوروبا، تغطي مسافات تقل عن 700 كيلومتر، وهو بالضبط نوع المسافات التي يمكن أن توفر فيها القطارات بين مدينتين رحلات أسرع وأنظف وأكثر استدامة في حالة وجود البنية التحتية الصحيحة.
تضارب مصالح
ويضيف مازولا "هناك حاجة إلى بذل المزيد من الجهود من أجل تحقيق الأهداف الطموحة ومراعاة تعهدات التغير المناخي وتحقيق الاستدامة للمشاريع. فالسؤال الأبرز: إذا قمنا ببناء وتشييد البنى التحتية، فإلى أي مدى يجب أن تصل رؤيتنا". ويعتبر مازولا أن الجولة الأولى من المباحثات ستؤدي إلى التوصل لاتفاق حول الطرق التي يجب تحديد أولوياتها، والمدن التي ستستفيد، وأي مدن ستفقد هذه الخطوط الحديدية.
من المحتمل أن يكون لشكل الشبكة النهائية لخطوط السكك الحديدية تأثير هائل على مستقبل التنمية في أوروبا ومدنها على المدى البعيد
ويرى مازولا بأن جدالات ضخمة ستظهر بفعل المصالح المتنافسة. ومن المحتمل أن يكون لشكل الشبكة النهائية لخطوط السكك الحديدية تأثير هائل على مستقبل التنمية في أوروبا ومدنها على المدى البعيد، أي حتى 100 عام قادمة على الأقل. وقد تقدم العديد من مسؤولي الاتحاد الأوروبي بملاحظات منها ما يتعلق بالتكلفة وكيفية التشغيل بشكل أكثر فعالية وكفاءة.