للرواية السورية مكانة عالية وحضور مهم في المشهد الأدبي العربي، ذلك لما قدّمته من أعمال مهمة تناولت عدّة مراحل في تاريخ سوريا، وقدمت صور موسّعة عن تلك المراحل بمختلف جوانبها، في هذا المقال نقدّم لكم خمسة من أهم تلك الروايات.
1- الشراع والعاصفة
يأخذنا الروائي السوري حنّا مينه في روايته "الشراع والعاصفة" (دار الآداب، 1966) إلى مدينة اللاذقية إبان الحرب العالمية الثانية، متحدِّثًا عن الأثار - غير المباشرة - التي خلّفتها الحرب بين سكّان المدينة، ومستَعرِضًا أهم الأحداث التي جرتْ في المجتمع السوري آنذاك، بدايةً من الصراعات السياسية بين الأحزاب والكتل الوطنية، ومحاولات الفرنسيين المستمرّة لتوسيع الشرخ بينها، منتهيًا بهيمنة الإقطاع على المشهد الاجتماعي وصراعهم للسيطرة على ميناء المدينة.
تقوم الرواية بشكلٍ أساسي على حكاية الطوسي، البحّار الذي يفقد قاربه وسط البحر، ليعيش بعد تلك الحادثة حالةً من الانسلاخ وعدم الاستقرار نتيجة بُعده عنه، كونهُ، البحر، يمثّل بالنسبة للطوسي وطنًا صغيرًا يجِدُ بهِ نفسه، ويحاول جاهدًا العودة إليه، من خلال فتحهِ مقهى صغيرًا على شاطئ البحر، وقريب من الميناء الذي يقع تحت وطأة صراع إقطاعيّ المدينة للسيطرة عليه، وبالتزامن مع هذا الصراع، يعيشُ الطوسي لاحقًا صراعًا أخر بينه وبين نفسهِ، يتمثّلُ في خوفهِ من تشرّد عامل المقهى إن قام ببيعه، رغم أن ذلك يمكِّنهُ من شراء قارب جديد، بالإضافة إلى خلافهِ مع المرأة التي يحبّها، حيث أنّها ترفض فكرة عودته إلى البحر مجدّدًا والابتعاد عنها، إلا أنّ الطوسي يعود بحّارًا في الخمسين من عمره.
2- الصمت والصخب
صدرت رواية "الصمت والصخب" (دار الآداب، 2004) للروائي نهاد سيريس دون أن يحدّد الكاتب لروايتهِ زمانًا أو مكانًا معيّنًا، على غرار رواية "شرق المتوسط" للروائي عبد الرحمن منيف، ولكنّ ما يبدو واضحًا في الرواية أنّ أحداثها تدور في بلدٍ يحكمهُ نظام عسكري مُستبد، وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري، ومن خلال ذلك يحدّد الكاتب للمتلقي، بطريقة غير مباشرة، مكان الرواية.
يقدِّم نهاد سيريس في روايتهِ وصفًا عن المجتمعات العربيّة التي تحكمها أنظمة شمولية دكتاتورية، وسعي تلك الأنظمة لتوظيف جميع المواطنين بمختلف مجالاتهم وأفكارهم لصالح تجميل صورة القائد أمام المجتمعات الأخرى، وحرصها أيضًا على تدجين من يُعارضها من خلال عدّة طريق، وذلك من أجل انتاج وتكوين مجتمع مثاليٍّ في ولائهِ لها، وذلك من خلال سرده لحكاية فتحي شين، الكاتب والإعلامي الذي يحاولُ جاهدًا إبقاء نفسهِ أمام الآخرين مستقلًا وغير منحاز للقائد، عبر تجاهله لهُ في البرنامج الذي يقدّمهُ، إلا أنّ ذلك لا يستمرُّ طويلًا، حيث يُطلَب منه إجراء مسابقة قصّة قصيرة وشعر هدفها بالدرجة الأولى تمجيد القائد.
يسردُ لنا فتحي شين ما تعرّض لهُ بعد اعتذاره عن إجراء تلك المسابقة، بدايةً من إجبارهِ على الاستقالة من عمله، وتهميشه، برفقة أعماله، إعلاميًّا واجتماعيًا، وتوظيف عددٍ من الكتّاب لمهاجمتهِ وتخوينهِ، كونه قام بالإساءة إلى شخص القائد ومكانتهِ، مُنتهيًا بمحاولات تدجينهِ من خلال زواج رئيس فرعٍ أمني من أمّه الأرملة، محاولًا استغلال الروابط الأسرية لأجل مصالحهِ المتمثّلة في مصالح نظام القائد ذاتهِ.
3- فقهاء الظلام
لا يختلف أحد على مدى أهمية الشاعر والروائي سليم بركات في المشهد الثقافي العربي، وذلك لما أضافهُ إلى المشهد الأدبي السوري والعربي معًا من أعمالٍ مهمة، شِعرًا كانت أو سردًا. وفي روايتهِ الأولى "فقهاء الظلام" (كتاب الكرمل، 1985)، يقدِّم لنا سليم بركات نصّاً سرديًا مُحكمًا، وحكاية مليئة بالغرابة والمفارقات والدهشة التي تُلازم المتلقي حتى نهاية الرواية التي تدور أحداثها في مدينة القامشلي السوريّة، والتي تتحوّلُ في الرواية إلى مدينة عجائب كما يريدُ لها سليم بركات أن تكون.
يروي سليم بركات في روايته حكاية "بيكاس" المولود العجيب والخارق الذي يكبر سريعًا خلال يومٍ واحد فقط، كما أنّهُ يكون مُدركًا لكلّ ما يجري حولهِ، تمامًا كما لو أنّهُ عايش تلك الأحداث قبل ولادته، مخلِّفًا بذلك ثورةً من ردود الفعل والدهشة بين سكّان القرية، إذ يبلغُ بيكاس سن الرجولة خلال عدّة ساعاتٍ فقط، ويتزوج من ابنة عمهِ، ثمّ يختفي فجأة، تاركًا عائلته، التي كانت لا تزال تحت تأثير صدمة ولادتهِ وما حدث بعد ذلك، تحاولُ تبرير غيابهِ لزوجته وسكّان القرية، ويقوم والده في النهاية بنشر خبر موتهِ في القرية، مُعلِنًا بذلك انتهاء حكاية المولود العجيب، وذلك من خلال دفن وسادةٍ على أنّها بيكاس الذي يجدونه في المقبرة أثناء دفنها.
4- قصر المطر
في روايتهِ "قصر المطر" (وزارة الثقافة السورية، 1998) يتناول الروائي ممدوح عزّام مرحلة مهمةً وشائكة في تاريخ منطقة جبل العرب، جنوب سوريا، في ظلّ الاحتلال الفرنسي للمنطقة، وهي الثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش - بهاء الدين في الرواية - ضد الفرنسيين. ولكنّ ممدوح عزّام لا يتناول الثورة بطريقةٍ مباشرة، إنّما يتحدّث عمّا رافقها من أحداثٍ وتحولاتٍ ثقافية واجتماعية في المنطقة، بمعنى أنّهُ يتناول مرحلةً كاملة لا حدثًا معيّنًا.
يسرد ممدوح عزّام في روايته صراع عائلتين في قرية المنارة، عائلة الحمدان الإقطاعيّة المنحازة في مواقفها للمحتل الفرنسي الذيَ مكّنها من بناء قوة ونفوذ في القرية والمنطقة، وعائلة آل الفضل التي تقفُ إلى جانب الثورة ويقاتل أفرادها في صفوفها، وينتجُ عن هذا الصراع هجرة عائلة آل الفضل من القرية هربًا من قسوةِ زعيمها الإقطاعي كنج الحمدان، والاستقرار في خرائب إحدى القرى.
يروي ممدوح عزّام تفاصيل ما مرّت بهِ العائلة من أحداث سيئة في تلك الفترة، وكفاحها إلى جانب بهاء الدين ضد الفرنسيين، كما يروي أيضًا حكاية حسّان الذي يتذكر - في بداية الرواية - مقتله حين يرى جثّةً أمامه، لنكتشف لاحقاً أنّ حسان هو كامل الفضل في لعبة تقمّص.
5- الوباء
يذهَبُ بنا الروائي هاني الراهب في روايتهِ "الوباء" (الآداب، 1981) إلى قرية تُدعى "شير" في محافظة اللاذقيّة، بدايةً من نهايات الحرب العالميّة الأولى وحتى سبعينات القرن العشرين، مُلقيًا الضوء على مواضيع عدّة، بدايةً من تشكيل البعض حركاتٍ ثورية سرّية تسعى لبناء مجتمع عادلٍ وديمقراطي، ونشوء طبقاتٍ جديدة في المجتمع السوري تنتمي غالبًا إلى الريف، وتتمكّن لاحقًا من خلق مكانة مهمة لها في السلطة، ومن ثمّ الاستيلاء عليها بدعمٍ من الجيش الذي غيّبَ المشهد الدستوري السوري، فارضًا نفسه بقوة السلاح.
يتناولُ هاني الراهب أيضًا في روايتهِ فكرة الأرض، أهميتها ونتائج خسارتها، وما قد تمنحه لمن يملكها من مكانةٍ ونفوذ، جاعِلًا من الشيخ عبد الهادي السنديان نموذجًا لذلك، إذ أنّ الأرض التي يمتلِكُها منحته نفوذًا ومكانة مهمة في قريتهِ، ومن خلال الأجيال التي تتوالى على القرية من عائلة الشيخ السنديان، يرصد الراهب التحولات والصراعات التي تدور في القرية وفي عائلة الشيخ ذاتهِ بعد وفاته، وبداية الخلافات حول تقسيم الأرض، ومحاولات البعض الاستيلاء على ميراث الآخرين، لتنتهي بذلك المكانة والأهمية التي منحتها الأرض للعائلة، حيث جعل الروائي من القرية وصراعاتِها نموذجًا صغيرًا لما حدث على مستوى البلاد كاملةً آنذاك، كاشفًا حقيقة النفس البشرية.
اقرأ/ي أيضًا: