في تموز/يوليو من العام الحالي، ضجت مواقع التواصل بحملات التضامن مع كاميرون هيرين، الشاب الوسيم جدًا الذي أودى تهوره وقيادته الطائشة لسيارته بحياة أم وطفلتها في ولاية فلوريدا الأمريكية. وسامة هيرين لم تكن كافية فقط لقبوله، بل لتضامن منقطع النظير معه، رغم اعترافه الكامل بجريمته.
لم تعد معلومة جديدة أن الأشخاص المتمتعين بقدر من الجمال هم الأكثر قبولًا في المجتمع والأكثر حظًا في الحصول على فرص مثل فرص العمل والتطور
لم تعد معلومة جديدة أن الأشخاص المتمتعين بقدر من الجمال هم الأكثر قبولًا في المجتمع والأكثر حظًا في الحصول على فرص مثل فرص العمل والتطور، بل يتجاوز الأمر ذلك، فنحن بشكل تلقائي وبدون وعي نربط الجمال بالخير والقبح بالشر، ولعل هذا ما يجعلنا في توقٍ دائم للجمال، فالقبول وشعور الآخرين تجاهنا بالأمان والانجذاب الناتج عن ذلك أو عن انطباعات مسبقة هي من الأمور التي نطمح لها جميعًا.
اقرأ/ي أيضًا: أحاديث في الجمال وما ورائياته
في التسعينيات من القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحالي انفجرت موضة الأجسام النحيفة جدًا، صارت النجمات يتنافسن، مَن هي صاحبة الجسد الأنحف والطعام الأقل والتمارين الأكثر، صارت الأجسام أقرب للعصي الخشبية بلا ملامح أو بروزات أو انحناءات، غزت الأسواق حينها سلع تخدم المنافسة مثل حبوب التنحيف والمشدات والأجهزة الرياضية، كان خَلق الطلب على تلك السلع حينها معتمدًا إما على رغبة النساء بخسارة بعض الوزن وحاجتهن النفسية ليصبحن أجمل وبالتالي أكثر قبولًا، وإما على خوف النساء من كسب كيلوغرامات إضافية وخسارة ما هن عليه من قبول.
في أواخر العقد الأول من القرن الحالي بدأت معايير الجمال وعلى مستوى العالم بالتغير، ولعل الموضة الجديدة جاءت مرتبطة بشكل مباشر بنجمات تلفزيون الواقع ال "كارديشيانز"، تزامن ذلك مع دعوات وتوجه جديد في صناعة الجمال لقبول الذات واحتضان أنفسنا كما نحن بعيدًا عن الحميات القاسية والعمليات والحبوب ووصفات التنحيف التي أودت بحياة عدد من النساء المتعطشات للقبول والجمال وتركت أخريات يعانين اضطرابات نفسية خطيرة نتيجة لذلك، بدأت شريحة عارضات الأزياء تتسع لتشمل نساءً بوزن زائد متصالحات مع انحناءات أجسادهن، أو سيدات متقدمات في العمر متصالحات مع شعرهن الرمادي وتجاعيد وجوههن، أو حتى سيدات عابرات أو متغيرات جنسيًا لا يزعجهن الحديث عن رحلتهن حتى وصلن للجسم والهيئة التي تشعرهن بالرضا عن أنفسهن.
ولكن إلى أي حد يمكننا القول بأن دعوات صناعة الجمال لقبول أجسامنا بامتلائها ووجوهنا بتجاعيدها وكل عيوبها هي دعوات جادة وإنسانية؟ فما نشهده اليوم من جنونٍ وهوس حوّل الكثيرات إلى نساء بأجسام غير طبيعية ولا حتى منطقية، أجسام وأشكال تكاد تكون مستحيلة تخلق بالتالي لدى المتلقيات أحلامًا مستحيلة تسحبهن شيئًا فشيئًا إلى هاوية رفض الواقع وكره الذات دون وعي، فهل حقًا كانت تلك الدعوات جادة باستيعاب الجميع؟
أي حد يمكننا القول بأن دعوات صناعة الجمال لقبول أجسامنا بامتلائها ووجوهنا بتجاعيدها وكل عيوبها هي دعوات جادة وإنسانية؟
لو قمنا بمقارنة سريعة فإن سوق الجمال صار أكثر توسعًا ولم يعد محصورًا بأغلفة المجلات - التي لم تكن سابقًا متاحة للجميع - ولا إعلانات التلفاز ولا بأعمارمعينة، بل صار اليوم متاحًا للجميع من خلال مواقع التواصل مثل "انستغرام" و"سناب شات" و"فيسبوك"، ليس ذلك فحسب، بل إن حق استعراض الجمال والإمكانات الجسدية لم يعد محصورًا بعارضات الأزياء وممثلات الصف الأول ولا النساء الثريات فحسب، بل استحدثت مسميات مثل "بلوجر" و"فاشينيستا" و"مؤثرة" وهن نساء يتشابهن في ظروفهن وإمكاناتهن المادية مع متابعاتهن إلى حد بعيد، لذا أصبحن وجوهًا إعلانية بدل العارضات ليصير بذلك الحلم بالجمال أقرب لمن تتابعهن وممكنًا أكثر.
اقرأ/ي أيضًا: أمبرتو إيكو.. تاريخ القبح أم تأريخ لسلطة الغرائبية؟
لن تكون بحاجة للتدقيق طويلًا في أجسام العارضات ذوات المقاسات الكبيرة اللواتي يعملن لحساب كبرى الشركات المتخصصة في مجال الموضة لتدرك أنها أجسام غير طبيعية، وأنها أجسام منحوتة على شكل "ساعة الرمل" من خلال التجميل و"الفوتوشوب". ومن البديهي جدًا أن أجسام النساء من ذوات المقاسات الكبيرة لا تتمتع جميعها بهذا الشكل المميز، حيث يكون الخصر غالبًا صغيرًا ويكون البطن مسطحًا، فأجسام النساء ذات أشكال متعددة متنوعة منها المثلث والمستطيل والكمثرى، وهي لا تشبه شكل أجسام أولئك العارضات إلا فيما ندر، يترك الأمر أثره على المرأة، ويستوقفها السؤال: "أنا مثلها ذات مقاس كبير لكن لماذا تبدو هي أجمل وبجسم متناسقٍ أكثر؟ لا بد من وجود خطأ ما"، وهنا يتشكل ضغط لا يختلف كثيرًا عن ذلك الذي خلقته الأجسام النحيفة جدا في التسعينات.
نفس الضغط تخلقه عارضة متقدمة في السن بشعر رمادي كثيف وأسنان مثالية وقوام ممشوق وطاقة كبيرة تجعل الناظر إليها يشعر وكأنها فراشة ستطير مع أول نسمة قادمة، فهل كان المقصود أن نتقبل فكرة تقدمنا بالعمر أم كان الهدف الاحتفاظ بنا كزبونات يحلمن بالجمال والكمال ولا يفقدن الأمل حتى وإن تجاوزت أعمارنا السبعين والثمانين؟
يذهب عالم النفس كارل روجرز إلى القول بأن الذات تنقسم إلى "الذات المثالية" و"الذات الواقعية"، وأن الفرق بين الذات التي نحن عليها (الواقعية) والذات التي نتوق إليها (المثالية) هو ما يخلق الشعور بالعار والنقص والقصور، وأننا في سعي دائم لنطابق الذاتين، وهو أمر أشبه بالمستحيل.
ولا يبدو ما يقوله روجرز بعيدًا أبدًا عن عالم الجمال وصناعته، بل يبدو أنها القاعدة الأساسية التي يقوم عليها، فنحن مثلًا لا نستعمل العدسة المصحوبة بـ"فلتر" خلال التقاط صورنا إلا بسبب توقنا للصورة المثالية، أو كما يسميها روجرز الذات المثالية. إن الفرق بين الصورة بعدسة الكاميرا العادية والصورة المثالية يخلق داخل النساء رغبة حقيقية للخضوع للتجميل أو ربما شراء المزيد من المنتجات، وبما أن تلك المنتجات والعمليات أصبحت اليوم في متناول الجميع فلماذا لا نسعى لتطابق الصورتين؟ إنه الفخ الذي قد تقع فيه الكثير من النساء وبعد عدة إجراءات تجميلية يكتشفن أن تلك الصورة التي بدت مثالية هي صورة في الواقع أبعد ما يكون في قياساتها وأبعادها عن كل ما هو طبيعي ومنطقي وواقعي!
الفجوة ما بين ما هو طبيعي وما هو معدّل هي ما يعزز شعورنا الدائم بالنقص والحاجة المستمرة للشراء أو الخضوع للتجميل
اقرأ/ي أيضًا: برامج الـ"Make Over".. هوس الجمال والتنميط
نحن لسنا ضد الجمال والسعي إليه، فأثر الشعور بالجمال عظيم على النفس ولا يمكننا إنكاره، وأنا امرأة باحثة دائمًا عن الجمال، وكجميع النساء كثيرًا ما ألتقط صوري بعدسة محسنة، ما أنا ضده بالفعل هو أن تخرج الأمور عن السيطرة وأن تصل حدود الهوس والجنون، وأن يكون في سعينا هذا تهديد حقيقي لصحتنا سواء الجسدية أو النفسية، ما أنا ضده بالفعل هو أن يتعامل معنا صانعو الجمال بكل هذا الخبث من خلال إيهامنا بأن الجمال ليس بالحلم المستحيل من خلال استعمال نماذج خاضعة لكثير من التعديلات مدعين أنها طبيعية وتشبهنا، إن الفجوة ما بين ما هو طبيعي وما هو معدّل هي ما يعزز شعورنا الدائم بالنقص والحاجة المستمرة للشراء أو الخضوع للتجميل، إنها تجارة قائمة في أساسها على إشعار النساء بالنقص، واللعب دائما على وتر ضرورة شعورهن بالدونية والحاجة للمزيد.
اقرأ/ي أيضًا: