لفت انتباهي كثيرًا ما نشرته صحيفة "الغارديان" البريطانية، منذ أسبوع تقريبًا، عن إطلاق رجل الأعمال الروسي، يفغيني بياتكوفسكي، برنامج تلفزيون واقع روسي من بناة أفكاره يحمل عنوان "Game2: Winter"، قيل وفق ما ذكر إنه يتيح كافة المحظورات في حياتنا العادية، وبمختلف أنواعها بما فيها الكحول، القتل، الاغتصاب، هذا دليل آخر على ابتكار الإنسان فعل مضاعف لإنهاء وجوده.
تُفيد "الغارديان" في حديثها عن "Game2: Winter"، أن المشتركين سيتركون في سيبيريا لمدة تسعة أشهر مراقبين عبر ألفي كاميرا، وزعت في المنطقة المحددة لهم، التي تصل درجة حرارتها أربعين تحت الصفر، تبث على مدار 24 ساعة، بعد توقيعهم على ورقة تنازل يتحملون فيها ما يحصل لهم، ويتم منح الناجين في نهاية البرنامج نحو 1,6 مليون دولار.
في برنامج تلفزيون الواقع "Game2: Winter" سيترك المشتركون في سيبيريا 9 أشهر مراقبين عبر ألفي كاميرا، في درجة حرارة 40 تحت الصفر
ولم ينسَ رجل الأعمال الروسي، أن ينوه في شروط المشاركة في البرنامج، أنه على الرغم من توقيعهم على ورقة التنازل، إلا أن قوات الشرطة الروسية، يمكنها أن تقتحم المكان في أي وقت وتعتقل المخالفين، لأنهم يخضعون لـ"القوانين الروسية"، وتقول إحدى الصحف إن كل شيء مسموح باستثناء الأسلحة النارية، وعلينا العلم أن خمسة دول تريد بث "Game2: Winter" الذي ينطلق العام المقبل.
اقرأ/ي أيضًا: "منيو" الفيسبوك العراقي
وإن صح ما ذكر عن فكرة "Game2: Winter"، فإن العالم سيكون مع نسخة هوليوودية مستعارة من سلاسل كثيرة، منها "The Hunger Games"، و"Death Race"، لكن هنا ينتفي فعل الصراع لأجل الحرية، ويتحول مقابل المال، المغامرة. وفي المقابل ستكون روسيا، حققت مكسبًا آخر على حساب الولايات المتحدة، لأن المتابعات الإعلامية المرافقة لانطلاقة البرنامج، قد تجعله يتصدر الأخبار العالمية.
ولا يمكننا هنا إلا الاعتراف أن روسيا تريد أن تواكب التطور الذي يرافق التكنولوجيا الحديثة من جميع أبوابها، وأن تثبت مكانتها على كافة الأصعدة، لا في القرصنة الإلكترونية، وترسانة السلاح، وغيرها الكثير من الابتكارات. عندما اغتيل السفير الروسي في تركيا، تناقلت جميع المحطات التلفزيونية مشهد الاغتيال، في السابق كانت وسائل الإعلام تعتذر عن نشر مثل هذه اللقطات لأنها "قاسية"، لكن العالم تغير، وأصبح فعل القتل عاديًا.
السنوات الخمس الأخيرة التي مرت على دول الربيع العربي، وتحديدًا سوريا، والمنطقة المحيطة بها، أدت إلى كسر هالة المشاهد العنيفة، المقاطع التي توثق القصف المُركز على مناطق المعارضة السورية، والفيديوهات المسربة للتعذيب في أقبية النظام، مع إصدارات تنظيم "الدولة الإسلامية"، حطمت أسطورة العنف السينمائي المتخيّل، وكسرت نمطية الدماء-الموت المصطنع، اليوم بإمكانك أن تبث مباشر ما تريد عبر صفحتك الشخصية على موقع "فيسبوك".
جرائم الجماهير ناتجة عمومًا عن تحريض ضخم، والأفراد الذين ساهموا فيها يقتنعون فيما بعد بأنهم قد أطاعوا واجبهم
ولهذا لا يمكن تجاهل أن رجل الأعمال الروسي يعرف تمامًا ماذا تريد الجماهير، مثلما يعرف أن البرنامج سيدر عليه أرباحًا خيالية، وأنه تجاوز الولايات المتحدة، التي تتصدر برامجها الواقعية العالم، وهو ما يربط بقول غوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير"، إن "جرائم الجماهير ناتجة عمومًا عن تحريض ضخم، والأفراد الذين ساهموا فيها يقتنعون فيما بعد بأنهم قد أطاعوا واجبهم".
المشاركون يعرفون تمامًا حقيقة المطلوب منهم تقديمه للمشاهد، لأنهم اختيروا بناء على ذلك، منح التشويق المباشر، في منطقة يتواجد فيها الدببة والذئاب، إلى جانب إمكانية التعرض للقتل أو الاغتصاب، مع زيادة في أخبار "شاهد" المنتشرة هذه الأيام مع ميزة بـ"الفيديو"، لكنها تختلف عن سابقتها بأن المتفرج سيكون مواكبًا للحدث المنتظر، الأسس المحددة لمسار "Game2: Winter" تثير الحيرة، مع طلبات المشاهدين المتزايدة للبرامج الأكثر واقعية، ما يمكننا غاليًا من مشاهدة مباشرة بتقنية ثلاثية الأبعاد مثلًا.
اقرأ/ي أيضًا: لماذا يصبح الناس أغبياء عندما يتناقشون في السياسة؟
حتى أن رجل الأعمال بياتكوفسكي حمى نفسه من أي مسؤولية، حين يوقع المشاركين على ورقة التنازل، وبنى جدارًا يعزله عن الملاحقة القانونية، ما يذكرنا بقول ميشيل فوكو "نحن خاضعون للحقيقة من حيث إن الحقيقة هي القانون، وأن الخطاب الحقيقي هو الذي، في جزء منه، يقرر وينشر ويمرر آثار السلطة. وقبل كل شيء، فإننا نحاكم وندان ونصنف ونلزم بمهام وبنوع من الحياة والموت، تبعًا لخطاب الحقيقة الذي يحمل في ذاته آثار السلطة".
نحن خاضعون للحقيقة من حيث إن الحقيقة هي القانون، وأن الخطاب الحقيقي هو الذي، في جزء منه، يقرر وينشر ويمرر آثار السلطة
وسيكون بياتكوفسكي ممثلًا بخطاب السلطة -الحقيقة- القانون، لا يمكن لأحد أن يعرف ما يُحاول اختباره على المشاركين، لأن هناك سيناريوهات معدة مسبقًا ينبغي تنفيذها، بدرجة عالية من التشويق، تجعل الشركات الكبرى تتوافد للإعلان، ومثلها من يتسابق للبث المباشر، مع الحصول على امتيازات، يرافقها زيادة في عدد المشاهدين، كلما زادة درجة الإثارة، والأحداث غير المتوقعة، ودائمًا القانون حاضر، لكن بعد وقوع الفعل الملزم إرسال رجاله، لأن السلطة تريدها حتى يكون الاتهام حقيقي أمام الرأي العام فعل مخالف، ولذلك وزعت مئات الكاميرات في المنطقة، كي يكون القانون حاضرًا، للحقيقة بند تواجد الشرطة يفقد "Game2: Winter" الإثارة المرجوة، مثلما فقدت الأمم المتحدة مصداقيتها عندما لم تستطع أن تصدر قرارًا صارمًا يدين نظام الأسد الأب قبل الابن.
ولربما يقول أحدهم إن التوقعات من البرنامج مبالغ بها، لكن الملايين سينتظرون رؤية المحظور، وهو ما ليس واردًا تجاهله من بياتكوفسكي ، نظرًا لمحاولة روسيا استعادة مكانتها التي فقدت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وفي النظر لتحويل سوريا إلى مختبر لاستعراض ترسانة أسلحتها الحديثة للمشترين، عبر استهدافها المدنيين بشتى أنواع الصواريخ، واستقدامها "أسطول الشمال" لقبالة السواحل السورية على البحر المتوسط، فإن ما يتنظر من البرنامج سيكون أكثر من المتوقع، نوعًا جديدًا من العنف المتخيّل الذي أصبح متداخلًا مع الواقع.
اقرأ/ي أيضًا:
الإرهاب البريطاني في إعلامهم
"روسيا اليوم".. صناعة الوهم البوتيني