باستدراك المساحات التي خاضها الخطاب المُكرس له مصريًا منذ عقود، يبدو من المتيسر القول بموت السياسة في مصر. لا يأتي هذا الموت من نافذة القول باستنفاذ السياسة مصريًا، إنما من باب أساسي يتعلق باحتكارها، أو إغلاق مسرحها. لكن، وبالتوازي، لا تتأتى ملاحقة ومساءلة الاستنقاع السياسي في مصر، أو موت السياسة في نسخته المصرية، إلا من خلال طرح سؤال قبلي حول طبيعة الممارسة السياسية "المنظمة" في مصر، وقلب عناصرها ضد ذاتها.
منذ تأسيس دولة جمهورية الضباط الأحرار، وظقت كل أو أغلب مساحات الفعل السياسي في بُنية الدولة الناشئة على ركام دولتي راسخ
منذ تأسيس دولة جمهورية حركة الضباط الأحرار مطلع الخمسينات من القرن العشرين، وُظفت كل أو أغلب مساحات الفعل السياسي في بنية الدولة الناشئة على ركام دولتيّ راسخ، قبل أن يحسم الراحل جمال عبدالناصر أية احتمالية صراع وتدافع سياسي يهدد نظامه/تنظيمه الواسع الحاكم، بالانقلاب على محمد نجيب ثم على الإخوان المسلمين، الذين اعتقدوا أن لهم نصيبًا من الإدارة، لم يطلبوه خارج النظام، وإنما من داخله، وقاتلوا من أجله.
اقرأ/ي أيضًا: السياسة في مصر تدفعني نحو الانتحار
يمكن القول أن عبدالناصر أسس لأقوى وأوسع تنظيم سياسي حكم البلاد على مدار ما يقرب من 70 عامًا. وأسس لخطابٍ عام فقد أهليته منذ هزيمة 1967 المتوالدة. كما رسّخ محمد أنور السادات لهزيمة هذا الخطاب بطريقين متراكبتين: الأولى عندما أقصى وصاية البقية الباقية من الضباط الأحرار، والثانية بما سمي الانفتاح الاقتصادي، وبينهما ما لا يمكن إغفال تأثيره على الحالة السياسية في مصر، أي اتفاقية كامب ديفيد، ونزوع "تنظيم الدولة المصرية" للعب مصريًا لا عربيًا.
من اتفاقية كامب ديفيد، استمرت فعليًا آليات ذات الخطاب الشمولي في السيطرة على المجال العام، وتكرست في أجلى صورها فيما بعد انتفاضة الخبز والشهور الأخيرة لحقبة السادات، التي شهدت قمعًا واسعًا بالمناسبة، ما يمكن تشبيهه لزفرة الموت الأخيرة.
ما كانت الحركة العسكرية الإسلامية الغاضبة التي أردت السادات، إلا تمفصلًا تاريخيًا لنفس الخطاب التنظيمي، أي قبلة حياة لتنظيم الدولة المصرية. بكلام آخر، عندما اعتقد النظام السياسي الحاكم أن ثمة ضرورة لإيجاد بديل وظيفي للوصاية التاريخية والهيكلية على التنظيم السياسي القائم في المؤسسة العسكرية؛ أسس لهذه الوصاية على مستويين: اقتصاديًا - سياسيًا وأمنيًا. هنا بدأت التشققات الجلية والفعلية للخطاب العام الذي تأسس مع جمهورية عبدالناصر.
رافقت تلك التشققات محاولات صارمة لإعادة إنتاج روح الخطاب في صورة من وهن الفاعلية السياسية الحقيقية لتنظيم الدولة، في مقابل التضخم الأمني متشعب المستويات، ليس أقلها الاستلاب الاقتصادي في يد مجموعة ناشئة، أو بالأحرى مُنشأة، من رجال الأعمال أصحاب المصالح المتداخلة مع دولة الأمن. ما خلق انزياحًا طارئًا على جمهورية الضباط، كالذي شهده إرث محمد علي وإبراهيم باشا، أي تفعيل مجموعة حاكمة عوضًا عن فعالية مؤسسة الدولة كمنظومة حكم.
أعادت تلك المحاولات المُباركيّة إنتاج حالة الصراع داخل التنظيم السياسي الحاكم في البلاد، أي بين الرؤوس التي أطلت من داخل الدولة المصرية لتتنازعها. ولهذه الحالة من الصراع جذور بدأت في الظهور بعد هزيمة 1967، إذ نجحت المجموعة الحاكمة داخل تنظيم الدولة في احتوائها تراكميًا بطرق هجينة، على رأسها الإقصاء والتقريب وإعادة إنتاج النفوذ وتدويره داخل شرائح التنظيم بما يقتضيه الشرط الموضوعي، مع الإبقاء لسلطة الوصاية التاريخية في يد المؤسسة العسكرية ككيان منفصل-متصل بمحاوره وبتنظيم الدولة.
على مدار تجربة الدولة المصرية منذ عبدالناصر حتى اليوم، لم يكن هناك إلا سياسة واحدة مركبة الأوجه، متعددة ومتغيرة، تحكمها قوانين المساومة ومساحات التفاوض داخل تنظيم سياسي صلب وشاسع، كما أن لهذا التظيم مهارة عميقة وفريدة في توظيف هوامش المجال العام داخل تفاعلاته. يُنشز عنه أحيانًا بعض أبنائه. لكن يبقى الجميع فعليًا وبحكم الأمر الواقع منضويًا تحت مظلته الواسعة. بمعنى أن أي تفاعل سياسي حزبي منذ أن أعاد السادات التعددية الحزبية، وأخرج الإسلاميين واليسار من السجون؛ لم يكن تدافعه بعيدًا عن شمولية التنظيم السياسي الأساسي المتمثل في "الدولة"، أي وفقًا للعبارة كثيرة الاستهلاك حد الابتذال، لم يكن أي من القوى صاحب دور تثويري أمام الدولة وطبيعتها القائمة، بل ضمنها.
استطاعت الجمهورية منذ تنفُذ عبدالناصر، أن ترسخ لمفهوم الحزب الواحد في هيئة دولة مترامية الأطراف مؤسساتيًا، تحكم المجال العام بتشاركية مع أطرافه المنضوين أصلًا ضمنها، بشروط الأقوى داخلها. وظل الصراع متعدد الأوجه محصورًا في من سيكون الأقوى داخل هذا التنظيم. وكان له، ولا يزال، وصاة تاريخيون استلهم عبدالناصر تاريخية وصايتهم من المؤسس الأول لمصر الحديثة محمد علي باشا.
الانقلاب على الشروط البنيوية لتنظيم الدولة المصرية
لم تكن مساعي المجموعة السياسية-الأمنية التي تعززت في العقد الأخير من حكم مبارك، إلا انقلابًا ناعمًا على الشروط البنيوية للممارسة السياسية في جمهورية تنظيم الدولة المصرية. وقد استدعت انقلابًا لم يخلوا من بعض الخشونة، قاده من وراء الظل خلفاء "الآباء المؤسسين"، ومارسته جماهير فاض بها الكيل من ممارسات هذه الطبقة التي ضيّقت على معيشة المصريين، وتمثل هذا الانقلاب المؤسسي، بالتلاقي مع النزوع الجماهيري المطلبي والتحريكي في ثورة 25 يناير 2011. غير أن هذه الثورة لم تولد ذاتيًا كما قد يبدو في ميدان التحرير، إنما هي نتاجٌ تراكمي لحراك سياسي لم يكن في أي وقت بعيدًا عن ظل تنظيم الدولة والصراعات ضمنه.
لهذا الحراك، أي 25 يناير، تمظهرات نسبية، تمثل أبرزها في تعديلات الدستور التي قرئت باعتبارها تسمح لتمرير مشروع توريث الحكم، ثم انتخابات مجلس الشعب والرئاسة في 2005، ثم انتخابات مجلس الشعب في 2010، وكانت التمظهر الأجلى للصراع السياسي على القوة داخل تنظيم الدولة.
ربما سيكون مفيدًا في تناول انتخابات مجلس الشعب في 2005، الاستدلال على بعض التسريبات التي باتت معلنة ويعرفها كثيرون، التي تكشف الترتيبات المسبقة بين الإخوان المسلمين وأجهزة أمنية بعينها، على "كوتة" برلمانية. وربما كذلك سيكون مفيدًا الاستدلال بحالة شهدتها مصر في انتخابات 2010 النيابية، عندما كان الحزب الوطني يرشح عن كل مقعد في كل دائرة مرشحين اثنين! ولا متسع لإغفال استدلال آخر مهم في تصريح غير علني لإبراهيم عيسى، عن الحملة الغامضة لترشيح عمر سليمان، آصف شوكت نظام الأسد في الدور والمصير! للانتخابات الرئاسية، إذ أفصح عيسى بأنه كان وراء هذه الحملة في الشوارع ومن ورائه المخابرات الحربية.
تأسست دولة يوليو على شمولية الحزب الواحد. وهو نموذج لم يكن بعيدًا عمّا كان سائدًا في نصف العالم تقريبًا. غير أن إرثًا متراكمًا من تسييس المجتمع المصري، طغى على هذا النموذج، وأعاد تشكيله لتصبح الحالة المصرية تنظيمًا سياسيًا واسعًا يحتوي كل تفاعل سياسي محتمل تحت مظلته، من داخل بنيته أو على هامشها، رفقة تضخم شاسع لشبكة مصلحية دولتية، أقل ما يمكن الاستدلال عليها، عبر نعتها بتمثيلات الدولة العميقة المصرية، التي للمجازفة المحسوبة ديمغرافيًا تتفوق على أي رصد لفعالية "دولة عميقة" أخرى ديمغرافيًا.
ثم حدث أن تحركت الموازين، واهتزت المعادلة شبه الراسخة على مدار سنوات طويلة، عندما تحولت الانتفاضة ذات المطالب شبه المحددة، إلى هبّة أكثر عنفًا وأوسع نطاقًا في يوم 28 كانون الثاني/يناير 2011، وهوجمت مقار الشرطة، وواجه الناس في الشارع رصاصها ليس فقط بصدورهم وبالحجارة وما توفر على الأرصفة.
هُزمت الشرطة المصرية/ جمهورية الداخلية داخل جمهورية التنظيم الدولتي، وانكسرت عصا سليمان التي كانت تستند عليها طائفة الحكم التي خلقتها تفاعلات العشر سنين الأخيرة من حكم مبارك، أو بالأحرى جمال مبارك وعصابته من رجال الأعمال ومن حولهم من جماعة وظيفية أعيد تشكيلها لتحمي مصالح هذه الطائفة.
"انتقلت الشرطة إلى رحمة الله" في يومها، كما قال نصًا منصور العيسوي وزير الداخلية الأسبق. وانتقل معها مرة وللأبد وبشكل نهائي وكامل خطابٌ سائد دام عقود. وتأسس مناخ جديد في طور التشكيل، فيما بقي التنظيم السياسي الأساسي قائمًا، وقد نالته خبطات الانتفاضة وحراك الشارع والتدافع السياسي، لكنه ظل باقيًا على أمل في أن يستعيد نفسه، وسيطرته أو يعيد إنتاج أدواته لا ذاته.
في الأثناء، لعبت المؤسسة العسكرية الدور المنشود نسبيًا، بأن أظهرت حيادها السياسي، ودبّ شعور عام بالارتياح بين قاداتها بأن مشروع التوريث انتهى، وانتهت معه الطائفة الحاكمة المتشكلة على أكتاف المال الأمني.
تأسست الجمهورية المصرية على شمولية الحزب الواحد الذي تمصّر ليصبح تنظيمًا سياسيًا واسعًا يحتوي كل تفاعل سياسي تحت مظلته
لم تكن المؤسسة العسكرية محايدة بالمعنى السائد للحياد، عن الوضع السياسي في مصر في أي وقت. فهي الكتلة الحرجة ومركز الجاذبية، إضافة لأجهزة أمنية سيادية أخرى بشكل أقل، لتنظيم دولة الجمهورية المصرية. لذا لم تكن أي من التحركات السياسية التي أعقبت ثورة 25 يناير بعيدة عن أعين المؤسسة، وأحيانًا عن توجيهها، أو دفعها على الأقل. ولم يكن فوز الإخوان المسلمين بالرئاسة، بعيدًا عن دفع تحالف، أو قل اتفاقًا مسبقًا مع المؤسسة. وعلى كل حال لم تكن جماعة الإخوان المسلمين في أي وقت بعيدةً عن التفاعل تحت مظلة تنظيم الدولة المصرية، لكن شيئًا ما، شديد الوضوح، اختلف خلال سنة حكم محمد مرسي.
اقرأ/ي أيضًا: صراع مقاعد السلطة يهدد بقاء مصر
"إيغو" مكتب خيرت الشاطر
على ما يبدو اعتقدت الجماعة، أو للدقة مكتب خيرت الشاطر، أن بالإمكان استغلال التخبطات البنيوية في تنظيم الدولة المصرية، لاستبدال مراكز القوى الفاعلة فالأفعل برجالاته، في تحركات غير متفق عليها مسبقًا مع القيادة التاريخية للتنظيم السياسي الحاكم للبلاد منذ 70 عامًا. وانطلق في ذلك أيضًا من خلال اللعب في ملفات راسخة، أقرب لكونها عقائد مؤسسة لتنظيم الدولة المصرية، وظن موهومًا أن بإمكانه عقد صفقة تعزز وجوده أمنيًا، مع الشرطة! مع ملاحظة أن القوات المسلحة لم تكن تجزل الرحمة والنعي للشرطة/الداخلية، بقدر ما كانت فرحة بانقشاع طيفها.
تحركت عناصر مكتب خيرت الشاطر لإعادة تشكيل تنظيم الدولة من داخله، بما يضمن تعزيز حكم الجماعة، انطلاقًا من دراية تاريخية، مفادها أن لا مجال لحركة سياسية فاعلة إلا من داخل هذا التنظيم الواسع والشمولي، الذي يضم تحت جناحه أغلب المصريين!
على ما يبدو أفضت تحركات الجماعة التي تناست لبرهة دورها الوظيفي، واعتقدت أن بإمكانها إعادة إنتاج نموذج مجموعة حاكمة جديدة، وللغرابة بالاستناد على الداخلية! إلى مساعٍ جذرية، تحالف فيها من كان رئيسًا لجهاز المخابرات الحربية، ثم أصبح وزيرًا للدفاع، ظرفيًا مع كل أجزاء تنظيم الدولة المصرية الأخرى.
إذًا، انقلبت كل مكونات الدولة المصرية على أحد أجزائها، وأكثرها نشوزًا عنها أيديولوجيًا، وإن كانت أقربها طبقيًا للمؤسسة العسكرية! وحدثت الحركة الانقلابية، التي لم يكن من مفر أمامها، أي الثالث من تموز/يوليو 2013.
على طريق الجمهورية الثانية للدولة المصرية
لا يبدو من الدقة في شيء، القول بأن نظام ما بعد الثالث من تموز/يوليو 2013، هو اجترار لنظام ما قبل ثورة يناير، فإعادة إحياء الموتى ليست من بين ممكنات البشر. في المقابل، يُمكن مع بعض التدقيق، إدراك كيف أن تحرك الثالث من تموز/يوليو وما استتبعه، ما كان إلا تأسيسًا ثانيًا لتنظيم الدولة المصرية، يساير خطابًا جديدًا في طور التشكل. ومع كل حالة فراغ فعلية داخل الخطابات المتشكلة، تتكرس الفاشية الموطنية أحيانًا في سبيل القضاء على أي صراع كائن أو محتمل.
الجدير بالرؤية لما أعقب الثالث من تموز/يوليو، أن ضربات النظام بالإضافة إلى تركيزها على الإخوان، تركزت كذلك على أطراف التحالف الظرفي الذي دفع بالانقلاب على الإخوان: الداخلية والقضاء ورجال المال والإعلام، والشخوص أو الكيانات السياسية التي اعتقدت أنه بدخولها في تحالف الثالث من تموز/يوليو لإسقاط حكم الإخوان، سيكون لها دورٌ فاعل، وربما إداري داخل النظام الحاكم المتشكل. ليتضح أنها نسيت هي الأخرى طبيعة دورها الوظيفي ضمن الهيكل الشاسع لتنظيم الدولة المصرية!
كذلك طالت ضربات النظام الجديد، أي وجه كان يمثل ثقلًا في طائفة الحكم المباركية، وبالجملة كل الفاعلين في النظام السابق، واعتقدوا أن ما بعد الثالث من تموز/يوليو سيكون إعادة إحياء لمراكزهم السابقة، أو أدوارهم داخل تنظيم الدولة. وكما أفضى الـ28 من كانون الثاني/يناير لسقوط طائفة الحكم المباركية، فقد جاء الثالث من تموز/يوليو 2013 ليُجهز على أي فلول للنظام السابق وداخليته، بما في ذلك عديد من مراكز القوى في الكتلة الصلبة لتنظيم الدولة المصرية.
هكذا استطاعت المجموعة الحاكمة الجديدة إنجاح ما فشلت فيه جماعة الإخوان، فأعادت تشكيل تنظيم الدولة المصرية بما يتماس مع جذوره، أي بنيويًا، لكن باستعادة للتاريخية الأيديولوجية للتنظيم، إذا صح التعبير.
أين السياسة؟
هكذا كان الفعل السياسي في مصر، منظمًا وإن بدا أحيانًا فوضويًا. وتمصّرت فيه مفاهيم سياسية مؤسسة، على رأسها التنظيم الحزبي. وخلال عقود طويلة من التدافع والصعود والهبوط في مراكز القوى والحكم، لم تكن السياسة إلا حاضرة، بمفهومها كفن لتحقيق الممكن في إطار يكفله الصراع التنظيمي وضروراته، والمدفوعة مرة والمؤدية في مرة أخرى إلى حرية فهم الضرورة، لا العكس.
ما بين حركة 23 تموز/يوليو 1952 وحركة الثالث من تموز/يوليو 2013، تراكمٌ من الفعل السياسي على عدة مستويات، ساهم فيه كل وجود سياسي فردي أو كياني، حركي أو تنظيري، لكن مع إدراكٍ غائب في العادة: أن أي فعل سياسي في مصر، هو في حقيقته من وإلى تنظيم سياسي واحد واسع وشمولي. وأن هذا التأسيس التاريخي للسياسة في مصر، ليس في الإمكان تجاوزه إلا من خلال حالة واحدة، لا يبدو أنها محتملة أصلًا في الآوان المصري، حيث أغلبية سكان مصر منتمون طبقيًا وأيديولوجيًا لهذا التنظيم، أو بتعبير أبسط وقد يكون أوضح: لهم مصلحة مباشرة أو شبه مباشرة في بقاء هذا التنظيم. فضلًا عن أن يكون لهذه الحالة من الـ"الانقلاب الجذري"، أي أثر إيجابي في ظل التموضع الإقليمي وحتى الدولي لمصر.
ما العمل؟
مما سبق، يبزغ شق شاهق في عمق مقولة "موت السياسة في مصر"، وإن كانت ميتة فعلًا بمعنى من المعاني، أو أقله متروكة لصالح نسق ما قبل سياسي، لكن استنادًا إلى طبيعة النموذج المصري، يمكن المجازفة بالقول أن المجال العام للفعل المستقل في مصر، لم يكن في أفضل حالاته إلا مستلبًا لـ"الخارج" أو ضمن اصطفافات أوسع من الحالة المصرية بعض الشيء، ولم تكن ثمة محاولة جادة لتوسيع المجال العام للممارسة المستقلة الوطنية، إلا في حالات نادرة، لكن ذكية وضرورية، كحركة كفاية أو إضرابات المحلة وتحركات عمالها، التي كانت أيضًا على تقاطع مع بعض أجزاء تنظيم الدولة المصرية آنذاك في تضادها مع المباركية وإرث الانفتاح الساداتي.
لذا يبدو أن سؤال "ما العمل؟"، لابد أن ينطلق أولًا من قراءة واعية للتراكم التاريخي للسياسة في مصر، قبليًا ثم تأويليًا، تراعي خصوصية النموذج المصري. وثانيًا فهم ما تعنيه السياسة وما تقتضيه ثم الغرض منها.
كما يظهر من غير المقنع الركون والطمأنينة لفاعلية أي محاولة لممارسة سياسية مستقلة، تستلهم من مفردات قاموس التنمية التروماني أو أموال الأجندات الأوروبية المرتحلة بغربتها الثقافية. وعلى هذه النماذج أُغلق المجال العام، بينما لا يزال في الإمكان التحرك انطلاقًا من الواقع المعيشي للمصري بتراكميته، وصولًا إلى ضفاف المطالب السياسية عبر شحذ كتلة اجتماعية تترجم تحريكيًا بينما عينها تكون على خلاصات المواقع.
لابد في مصر من الانطلاق من الحقوق الإنسانية الأساسية والاجتماعية الضرورية لتشكيل نواة حركة اجتماعية وطنية مطلبية مستقلة، مركزها الإنسان المصري بخصوصياته
لذلك كله، لا يبدو من منفرج أمام هول ومتانة أدوات تنظيم الدولة المصرية سوى الانطلاق من الحقوق الإنسانية الأساسية ثم الاجتماعية الضرورية لتشكيل نواة حركة اجتماعية وطنية مطلبية مستقلة، مركزها الإنسان المصري بكل خصوصياته وحمولاته، تدفع منه وإليه لتوسيع مجال الفعل والممارسة العام، قبل المطالبة سياسيًا، والتي على الأرجح ستستلزم في كل ظروفها الأولية التأسيس لتحالفات مصلحية مع مراكز قوى مؤثرة في تنظيم الدولة المصرية، ولايبدو أن ذلك قد يتأتى إلا بوجود يستلهم من التنظيم الحزبي فعاليته، ويستمد شرعيته من الحقوق الاجتماعية للمصري والمطالب التي تحاكي اليومي وتعاشره بعيدًا أن أشباه أحلام مشاريع التنمية الممولة، أو المعارضة الفندقية، أو محاكاة تنظيم الدولة المصرية بنسخ بلهاء تستدعيه للانقضاض عليها من جديد. سؤال كبير أمام نقائض شرسة، إجابته مرهونة بالبساطة تراكميًا لا بالتبسيط خطيًا!
اقرأ/ي أيضًا: