على الرغم من أن القمح من المحاصيل الاستراتيجية المهمة لمصر، فهو يمثّل مصدرًا غذائيًا كبيرًا للمصريين جميعهم، ولا سيما في رغيف الخبز، فإن الحكومة المصرية لا تلتفت إلى ذلك، خصوصًا مع اعتمادها الكامل على استيراده من الخارج، إذ تقوم الدولة باستيراد كميات كبيرة من القمح سنويًا لتوفير الخبز المدعَّم، وهو ما يجعلها غير عابئة في كثير من الأحوال بالمشكلات التي تعتري زراعته أو توريده بعد حصاده.
تمتنع الحكومة المصرية عن توفير مستلزمات الإنتاج والميكنة للفلاح ووضع سعر عادل للقمح، فضلًا عن إهمالها مشاورة الفلاحين
مع كل موسم حصاد، تتجدد في مصر مشكلات توريد القمح. أولى تلك المشكلات ظهرت قبل بدء موسم الحصاد حين أعلن مجلس الوزراء في بداية العام الحالي ربط سعر توريد القمح المحلي بالأسعار العالمية، وهو ما قابله المزارعون ونقباء الفلاحين في المحافظات باستنكار وغضب. ويعود غضب المزارعين إلى عدم تنفيذ الحكومة لقرار سابق أصدرته في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر الماضي يقضي بدعم المحصول بمبلغ 1300 جنيه عن كل فدان، على أن يتم سداد الدعم للمزارعين مقدمًا خلال شهري يناير وفبراير قبل الحصاد، عن طريق وزارة التموين والتجارة الداخلية، وهو ما لم يحدث.
اقرأ/ي أيضًا: "قصة القمح المسرطن".. الحكومة تقتل الشعب بالخبز!
وشهدت السنوات الماضية محاولات متكررة من المزارعين لحث الحكومة على دعم المحصول أسوة بما يحدث في الدول الأوروبية، حيث يتكبّد المزارعون المصريون زيادة أسعار الأسمدة والمحروقات والمازوت والبذور وغيرها، فضلًا عن الأعباء الاقتصادية الأخرى التي تطولهم مع سائر المواطنين بسبب الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمرّ بها مصر منذ سنوات، فيما تمتنع الحكومة عن توفير مستلزمات الإنتاج والميكنة للفلاح ووضع سعر عادل للقمح، فضلًا عن إهمالها مشاورة الفلاحين قبل اتخاذ أي قرار بشأنهم.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل تخطاه إلى إعلان كثير من المزارعين رفضهم للأسعار التي حددتها الحكومة لتوريد القمح محليًا، رغم زيادتها عن الأعوام الماضية بنسبة 30%، حيث يرون أن الأسعار الجديدة "`ضربة أخرى" لهم، وخاصة المستأجرين منهم. وكانت وزارة الزراعة قد أعلنت في وقت سابق أن أسعار توريد القمح هذا العام، هي 555 جنيهًا للإردب بنسبة نقاوة 22، و565 جنيهًا بنسبة نقاوة 23، و575 جنيهًا بنسبة نقاوة 23.5. وفي حين يرى وزير الزراعة عبد المنعم البنا أن الأسعار الجديدة تحقق أعلى عائد للفلاح من زراعة القمح، وتغطي تكاليف الإنتاج، وتضمن له الحصول على هامش ربح جيد، يصبّ مزارعون لعناتهم على الحكومة.
في حديثه لـ "ألترا صوت"، يشير محمود أبو صالح، أحد مزارعي محافظة المنوفية، إلى أن الحكومة تؤكد كل عام أنها لا تعمل لصالح الفلاحين الغلابة: "بصراحة هي حكومة غير عادلة لأنها تناست تمامًا تحقيق هامش ربح للفلاحين واستسلمت بغرابة شديدة لكبار التجار المعروفين بالاسم، المتحكمين في السوق كلها، ورغم وضعها لثلاثة أسعار للقمح فإن تلك الأسعار غير عادلة وغير كافية في ظل ارتفاع الأسعار عمومًا في مصر، وعدم وجود دخول شهرية ثابتة للفلاحين".
يرفض مزارعون في مصر الأسعار التي حددتها الحكومة لتوريد القمح محليًا معتبرين أنها لا تضمن هامش ربح ولا تتناسب مع تكاليف الإنتاج
وأضاف أبو صالح أن استهلاك فدان القمح خلال زراعته، من تقاوي وحرث وري وعمالة وأسمدة ومبيدات وتكاليف حصاد وإيجار، يتجاوز تلك الأسعار "غير المدروسة" حكوميًا، ويختم حديثه لـ ألترا صوت" بإعلان يأسه من مناشدة الحكومة أو مطالبتها بزيادة الأسعار حفاظًا على حقوق الفلاحين وأسرهم: "لا يمكن التعويل عليها في أي شيء يعود بالنفع على الفلاحين، فهي غالبًا تريد التخلّص منهم نهائيًا وإفساح المجال للتجار والمنتفعين".
اقرأ/ي أيضًا: الثروة السمكية في مصر إلى زوال
وقبل أسبوعين، مع بدء توريد محافظات الجنوب التي يتم الحصاد فيها باكرًا عن محافظات الشمال والوجه البحري، شهدت شون وصوامع محافظات الصعيد ضعفًا في توريد القمح منذ بدء موسم الحصاد نتيجة عزوف المزارعين عن عمليات التوريد، اعتراضًا على الأسعار التي اعتبروها "لا تتناسب مع تكاليف الإنتاج التي يتكبدونها طوال الموسم".
ومن المتوقع أن تشهد عملية التوريد أزمات ومشكلات أخرى على مستوى الجمهورية، فعلى الرغم من إلغاء قرار سابق لوزير التموين بتسليم المحاصيل بالحيازات الزراعية، وهو الأمر الذي كان سيمنع توريد قمح تلك الأراضي المستأجرة، فإن الشوَن الترابية تمثّل أزمة كبيرة أمام الفلاحين، الذين يعانون من خضوعهم لسلسلة طويلة من طوابير السيارات، تقف بالساعات أمام تلك الشوَن انتظارًا لدورها في توريد القمح، الأمر الذي يتسبب في استياء وغضب الكثير من المزارعين.
وفي سياق متصل، دعا النائب رائف تمراز، وكيل لجنة الزراعة والري بمجلس النواب، إلى إنقاذ المزارعين ومحصول القمح مما يتعرضان له من وزير التموين، والذي وصفه النائب بـ"الفاشل"، بعد وقوف الفلاحين بمحصول القمح أمام الصوامع، منذ ثلاثة أيام دون مجيب. وأضاف تمراز، في تصريحات للصحافة المحلية، أن الفلاحين فى شمال الشرقية يهددون بطحن محصول القمح وتحويله إلى علف للمواشي والحيوانات، بعد تعرضهم للإهانة من قِبَل وزارة التموين فى عملية توريد القمح، وهي محاولة من الوزير والوزارة لـ"تطفيش الفلاح" من توريد القمح وإتاحة الفرصة لمافيا استيراد القمح على حساب المنتج المحلي، على حد قوله.
وكشفت تقارير وزارة الزراعة في بداية العام الماضي، عن تراجع مساحات القمح المزروعة في مختلف المحافظات لعام 2016 بنحو 500 ألف فدان تقريبًا، وبلغ إجمالي المساحات حينها نحو 2 مليون و420 ألف فدان، مقابل 2 مليون و912 ألفًا و691 فدانًا، خلال الفترة نفسها من العام الذي سبقها، فيما قُدرت نسب المساحات المزروعة بالقمح بـ67.1% فقط من المستهدف زراعته وقتها، والمقدرة بـ3 ملايين 365 ألفًا و42 فدانًا.
وفي وقت تدعي الدولة المصرية سعيها جاهدة للنهوض بزراعة القمح وتوفير ملايين الدولارات، التي تخرج سنويًا لاستيراد قمح رديء لا تكاد تقارن جودته بجودة القمح البلدي المصري، تأتي شكاوي المزارعين والتجار من معاناتهم في طوابير الانتظار، والأسعار "غير العادلة" التي حددتها الحكومة لتوريد القمح المحلي، لتقدمان دليلًا مزدوجًا على سياساتها الخرقاء التي قد تقضي على زراعة "الذهب الأصفر" مثلما حصل سابقًا مع القطن "الذهب الأبيض"، الذي أدى فساد مسؤولي وزارة الزراعة إلى انهيار زراعته في مصر ومن ورائه انهيار صناعة الغزل والنسيج.
اقرأ/ي أيضًا: