دون كثير بحث يمكن اعتبار، أو في الحقيقة تم اعتبار توني موريسون من أهم المرجعيات التي يستند إليها أقطاب النظرية ما بعد الكولونيالية، بوصفها نموذجًا باذخًا لقوة الكتابة المهاجرة التي استطاعت خلخلة المركز الغربي عبر تلوينه بكتابة تنتمي إلى ثقافات أخرى لم ينفك ذلك المركز يقصيها، زاعمًا الحفاظ على كتابته كحد أبستمولوجي للغرب. موريسون لطخت بسوادها البياض الغربي (الأمريكي) الشاحب، وأرغمته -مع كتاب آخرين- على أن يعيد النظر بنفسه وقد احتقن بالتشكيك ببياضه، وربما اقتنع أنه ملون أيضًا.
يمكن اعتبار "اللعب في الظلام" لتوني موريسون المرشد الثقافي للسود خاصة في العلاقة مع الأدب والمجتمع الغربيين
يمكن اعتبار كتابها "اللعب في الظلام" (ترجمه إلى العربية: أسامة إسبر) المرشد الثقافي للسود خاصة في العلاقة مع الأدب والمجتمع الغربيين، إذ درست فيه أثر الوجود الأسود في الخيال الأدبي الغربي بصفة عامة والأمريكي بصفة خاصة، وإن مشروعها الأدبي برمته يقوم على ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: رحيل توني موريسون.. الأسئلة الأكثر استبصارًا
مثالنا هنا في هذه المقالة هي رواية "غرام" (2004) (ترجمها إلى العربية: محمد عيد ابراهيم) التي تنتمي إلى فضاء موريسون الأدبي والمعرفي ذاته: الوجود الأفريقي الفاعل وذي القدرة على التأثير في المجتمع الأمريكي، بل أكثر، على تحويله. شخصيات كثيرة، حسية بإفراط، منهكة بإفراط، وملتبسة بإفراط. لنقل إنها عائلة رمزية تمثل عبر علاقاتها شديدة الحساسية والقلقة تاريخ الوجود الأفريقي في المجتمع الأمريكي، بتطلعاته وآماله، بانتصاراته الصغيرة وهزائمه الدائمة، بصداماته مع نفسه ومع المجتمع الجديد الذي اخترقه.. رواية قائمة على أن الحاضر نقطة انطلاق نحو التاريخ: ذاكرة منهكة بمضامينها وكفاحها، متمحورة حول قدرة السود على اتقاء شر التمييز العنصري الذي مورس ضدهم، الأمر الذي أوصلهم إلى بناء اقتصاد يقوم على الاكتفاء الذاتي في مجتمع صغير ناء، ما أمكن، عن ممارسات الأمريكيين الاسترقاقية، تمثل هذا النمط الاقتصادي في الرواية في فندق ومنتجع "بيل كوسيه": الأسود المعشوق الذي بدا وكأنه "الفيتش" الذي يتمتع، حقًا، بقدرة سحرية على حماية السود، ليس الذين يعملون لديه فحسب، بل السود في المنطقة عامة. تبدأ الرواية بعد موته بـ 25 عامًا برسم بورتريه له، وتتدرج من كونه صديقًا للجميع، فعاشقًا.. وتنتهي بكونه شبحًا يحدد سلوكهم جميعًا، بل مصائرهم المجهولة.
"إل" الخادمة في فندق كوسيه، وامرأة الحكمة، هي راوية التفاصيل التاريخية والنفسية لسود الرواية، بل للسود الأمريكيين جميعًا. إنها المرأة التي اختارتها الآلهة لكتابة قصة الخلق السوداء، بدءًا من «يل كوسيه الذي بدا على لسان "إل" والشخصيات كافة، أنه مردوخ السود، لكنهم لم يمنحوه تسعين اسمًا حين نصب نفسه في أعلى برج (فندق) كوسيه، أو حين نصبوه هم هناك، كإله للدلالة، بل منحوه كل الأسماء حتى تلك التي لا تليق بالآلهة.
تنجح "إل" برواية القصة لتجردها إلا عن الحب، بينما لا يتحقق الأمر لـ هيد، زوجة كوسيه الثانية، لانغماسها في التفاصيل الباردة، ولمنافستها غير المجدية مع رفيقتها في السكن كريستين، حفيدة كوسيه، والمهمشة من كثرة ما استحمت بمياه الرجال الآسنة أحيانًا كثيرة. حين أعلنت هيد عن حاجتها لموظفة تساعدها في كتابة قصة آل كوسيه ظهرت امرأة فاتنة، خارجة لتوها من إصلاحية، تدعى جينيور، وهنا، مع بدء العلاقة التي ربطتها بـ رومن الشاب النزّاع للبطولة، والعامل في منزل كوسيه التي تقطنه هيد وكريستين يبدأ تاريخ آخر للأفارقة، ينتمي للمستقبل، دون تصريح روائي بذلك، بل نلمحه عبر إشارات تتعلق بالجنس المتواصل والحب والفتوة والقيم التي حاول رومن تأسيسها (يدافع بشراسة عن فتاة تعرضت للاغتصاب من قبل مجموعة شبان)، وربما تكون هذه هي الإشارة الوحيدة في الرواية للمستقبل، مع ذلك لا نجد أي حوار بين جينيور ورومن أو أي شخصية أخرى يتعلق بـ: ماذا بعد؟ ثمة ذاكرة طاغية بتوحش. إنه تاريخ آخر، لكنه ليس منفصلًا وليس منعزلًا عن مناخ آل كوسيه، بل هو أشبه بتاريخ شخصي يتأسس على تفاصيل يومية إلا أنها شديدة الإثارة والترقب، وربما هذا هو عمل توني موريسون (جائزة نوبل 1993) المزدوج.
عرضت توني موريسون لمعاناة السود عبر ذاكرة شخصياتها المشحونة، وعبر علاقاتهم المتوترة، واقتحمت الثقافة المركزية الغربية
يعتبر هومي بابا أن عمل الكتابة المهاجرة (السوداء هنا) عمل مزدوج: فهي محملة بتجربتها التاريخية من جهة، ومقتحمة توضع الأبيض الراسخ، ومخلخلة التمركز الغربي حول ادعاء النقاء الثقافي والعرقي المزعوم من جهة أخرى. موريسون في "غرام" (وفي أعمالها الأخرى) حققت ذلك بدقة، إذ إن استراتيجيتها الكتابية مدروسة وفق منهج معرفي صارم محمي بأشداء: جوزيف كونراد، سلمان رشدي، ف. س. نايبول، نادين غوردايمير، نهضة هارلم، هومي بابا، غاياتري سبيفاك، إدوارد سعيد.. موريسون (حازت أيضًا جائزة بوليتزر 1988). عرضت لمعاناة السود عبر ذاكرة شخصياتها المشحونة، وعبر علاقاتهم المتوترة، من جهة. ومن جهة أخرى، اقتحمت الثقافة المركزية الغربية والمجتمع الغربي عبر إحداثها ما تسميه بكتابها "اللعب في الظلام" بـ"الأفريقية"، محققة فعل الكتابة الأسمى: الحدوث.
اقرأ/ي أيضًا: ثلاثة أسئلة حول الواقعية السحرية
إن العبارة التي يحتفي بها إدوارد سعيد ويعتبر أنها تحقق منهجه في ضرورة انطلاق الكتابة من "التجربة التاريخية"، هي دعوة موريسون للكتّاب بأن يحولوا مظاهر خلفيتهم الاجتماعية إلى مظاهر لغوية. وبالفعل، فإن لغتها تقطّر "التجربة التاريخية" أو "الخلفية الاجتماعية" لها ولسودها. لغة كثيفة، عميقة، مشحونة بقلق وجودي، محتقنة بدلالة قصوى.. إنها اللغة وقد خرجت من أعماق المجتمع فبدت وكأنها "أصنص" المجتمع، بحث إننا لو حللناها سنعثر على مجتمع أفريقي كامل.
اقرأ/ي أيضًا: