ألترا صوت – فريق التحرير
انتشرت في مواقع التواصل الاجتماعي، مؤخرًا، نقاشات عديدة حول مسألتي أصول ونسب بعض العائلات السورية والفلسطينية العريقة، مردّها فحوص DNA وتحليلات جينية مختلفة أجراها بعض أفرادها إما بدافع الفضول، أو بهدف التحقق من صحة ما هو متوارث حول نسبهم وأصولهم.
يقول خلف إن معطيات الفحوصات والتحاليل الجينية تؤكد أن غالبية سكان شبه الجزيرة العربية الحاليين هم مهاجرون من بلاد الشام
جاءت نتائج هذه الفحوصات متوافقة مع معتقدات البعض، وعلى عكس ما توارثه البعض الآخر من سرديات شفوية، أو حتى دراسات تاريخية حول أصولهم، حيث بيّنت، على سبيل المثال، أن عائلة "العظمة" الدمشقية ليست تركمانية كما يعتقد البعض، بل عربية من منبت سوري قديم جدًا. وأكدت أيضًا أن أصول عائلة "أبو غوش" الفلسطينية هي أصول عربية قبلية وليست مملوكية أو شيشانية.
اقرأ/ي أيضًا: جوديث بتلر: متى تستحق الحياة الحسرة؟
تسببت هذه النتائج التي جرى تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي، بنقاشات وسجالات بين فئة تبنت ما جاء فيها، وأخرى شككت في صحتها وانحازت إلى ما هو متوارث بغض النظر عما إذا كان مصدره السرديات الشفوية، أو الدراسات التاريخية التي لا بد أن تترك نتائج هذه الفحوصات أثرًا بالغًا على صحتها، وتدفع المتخصصين في علوم التاريخ إلى إعادة النظر في مضمونها.
للحديث عن هذه الظاهرة وتوضيح أسبابها ودوافعها، وفهم انعكاساتها المحتملة على علم التاريخ، والتركيبة السكانية للمنطقة، والعلاقات العائلية والهويات الفردية، التقى "ألترا صوت" بالباحث والمؤرخ والروائي الفلسطيني - السوري تيسير خلف، بصفته أحد أبرز المهتمين بمسألة الفحوصات والتحاليل الجينية التي يرى أنها: "أحد العلوم المساعدة للآثاريين"، لافتًا إلى أنه: "قلما تخلو تقارير بعثات آثارية حاليًا من قسم يدرس تحليل جينات الرفات القديمة التي عُثر عليها في الموقع المدروس".
يقول خلف إن هذا العلم: "يُعتمد فيه ثلاثة أنواع من الفحوصات، نوع يبحث في السلالات الذكرية، ونوع يبحث في السلالات الأنثوية، ونوع يفحص التركيبة الجينية العامة. وكلما توسعت قاعدة البيانات في الفحوص العامة، سواء أكانت عينات قديمة أم عينات لبشر معاصرين، كلما أصبحت رؤيتنا أوضح وأكثر دقة فيما يتعلق بتنقلات المجموعات البشرية القديمة، وعلاقاتها، وتركيبتها، وعلاقة الشعوب القديمة بالشعوب المعاصرة".
ويشير ضيفنا في هذا السياق إلى أن: "الاختلاط والتفاعل هما السمتان الأبرز، وبذلك انتفت النظريات العرقية التي سادت في القرنين التاسع عشر والعشرين، ولم يعد من الجائز تقسيم البشر إلى أعراق، فنحن في النهاية عرق واحد، حتى وإن اختلفت الألوان".
وفي حديثه عن أسباب إجراء هذه الفحوصات والتحاليل، يقول مؤلف "مذبحة الفلاسفة": "هناك أسباب كثيرة، منها الفضول الشخصي، والبحث عن أقارب، والتحقق من النسب. هذا فيما يتعلق بالفحوص الفردية الشخصية، ولكن هناك فحوص أكاديمية تقوم بها مؤسسات لأهداف شتى تتعلق بدراسة مجتمع من النواحي الاجتماعية، أو تحديد أمراض وراثية، أو عناوين محددة تسعى المؤسسة إلى دراستها، ومن ذلك دراسة السلالة الغالبة، وتسلسل السكان أو الهجرات وغير ذلك، فهو علم كبير ويساعد الكثير من العلوم الأخرى".
وحول انعكاسات نتائج هذه الفحوصات على علم التاريخ، يرى خلف أنها انعكاسات: "كبيرة جدًا، فنحن الآن نستطيع أن نفهم أكثر طبيعة التركيبة السكانية لمنطقة معينة وكيف اختلطت سواء عن طريق الغزوات أم عن طريق التوسع التجاري، وتواريخ الهجرات، والهوية السكانية لموقع معين وربما هويته الثقافية".
ويضيف: "هناك الكثير من الفرضيات التاريخية سقطت مع هذا العلم، وأخرى تم تأكيدها، ومنها مصدر الهجرات القديمة في المنطقة العربية، حيث لم تعد الجزيرة العربية هي المصدر الأرجح، ذلك أن المعطيات الحالية تؤكد أن غالبية سكان شبه الجزيرة العربية الحاليين مهاجرون من بلاد الشام". ويتابع: "قد تظهر معطيات جديدة تنفي هذا الكلام، لكن المعطيات الحالية المتوفرة تقول إن بلاد الشام منذ العصر الحجري الحديث هي الحاضن الذي انتقلت منه سلالات بشرية تسكن في عموم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وثمة توسعات لاحقة في أوروبا وأمريكا".
وعن سؤالنا له حول آليات عمل هذه الفحوصات وكيفية فهم نتائجها التي يرى البعض أنها أقرب إلى طلاسم، أجاب صاحب "عصافير داروين" إنها كأي علم: "منظمة مفاهيمية ورمزية، وتحتاج إلى دراسة معمقة وطويلة الأجل لفهم هذه المعطيات التي تبدو للمبتدئ وكأنها طلاسم. لو أخذنا موضوع السلالة الذكرية، فهذه السلالة مثلًا تنتقل شيفرتها من الأب إلى الابن إلى الحفيد. الابن يحمل شيفرة والده إضافةً إلى طفرة خاصة به، وهذه الشيفرة مع الطفرة تنتقل للحفيد، وهكذا".
أسقطت نتائج التحاليل الجينية فرضيات كثيرة وأكدت أخرى تتعلق بالتركيبة السكانية للمنطقة العربية التي تساعد على فهمها بصورة واسعة ودقيقة
ويرى خلف أن: "هذا التسلسل الرياضي يوضح الالتقاءات بين الناس، على صعيد العائلة أو القبيلة أو الشعب، وهو ما يتيح فهم درجات القرابة الأبوية، وزمن الانفصالات بين الناس، بينما تتيح دراسات السلالة الأمومية فهمًا آخر للعلاقات بين البشر". ويضيف: "أما التركيبة الجينية التي تسمى الأتوسومال، فهي توضح نسب المونات البشرية في جيناتنا، وهي مختلفة بشكل كبير ومفاجئ، فقد يكون للسويدي مثلًا مشتركات جينية مع شخص من شعوب أمريكا الأصلية، وهكذا".
اقرأ/ي أيضًا: أجمل قصة عن الاقتصاد
أما عن الجانب السلبي لهذه العملية وما قد يترتب عليها من إشكالات، فيقول خلف: "الوجه السلبي لهذه العملية يتلخص في فهمها الخاطئ من بعض الجهلة في منطقتنا العربية خصوصًا، حيث يدخل التعصب القومي والقبلي في هذا العلم، فيتحول عند هؤلاء الجهلة إلى وسيلة للتقسيم والتنابذ". وينهي ضيفنا حديثه لـ "ألترا صوت" بقوله إنه لا علاقة لهذا العلم بما سبق ذكره، وأن المشكلة تكمن: "في العقول التي تستخدمه وتفهمه بشكلٍ خاطئ".
اقرأ/ي أيضًا: