يخصص ميلان كونديرا الجزء الأخير من كتابه "لقاء" للحديث عن رواية الإيطالي كورزيو مالابارت "الجلد". يصفها بأنها رواية أصيلة تعبر عن "حداثة فن الرواية"، ويتوقف طويلًا عند الشكل الجديد والخاص الذي ابتكره مالابارت، والذي لا ينتمي إلى أي من الأشكال الروائية المعروفة، حتى أن كثيرين لا يقبلون بانضواء "الجلد" في باب الرواية.. ولكن برأي كونديرا فهذا هو بالضبط ما جعلها رواية خالدة، ولأنها فريدة في شكلها ولأنها رواية بالتأكيد فقد قدمت إثباتًا جديدًا على رحابة الفن الروائي ومرونته الهائلة..
مترجمون كثر كانوا يتصرفون مثل رقباء التلفزة العربية، ممن اعتادوا حذف القبل والمشاهد الحميمية من الأفلام المعروضة في سهرات الخميس
من الطبيعي، إذًا، أن تهرع للبحث عن ترجمة لهذه الرواية التي فتنت كونديرا، ويحالفك الحظ (أو هكذا تعتقد) فتعثر على نسخة من ترجمة الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور (1931 ـ 1981). ولكن ثمة مفاجأة، فالكتاب برمته أقل من ثمانين صفحة، وإذا ما استبعدنا مقدمة الناقد السينمائي سمير فريد، وهي عن فيلم إيطالي مأخوذ عن الرواية، وإذا ما حذفنا قائمة منشورات "المشروع القومي للترجمة"، والذي أصدر هذه الترجمة، فإنه لا يتبقى للرواية نفسها إلا 35 صفحة (دراسة كونديرا عنها 35 صفحة تقريبًا!). إذا فنحن أمام قصة قصيرة، (قصيرة قليلًا)، ففيما إذًا كل حديث كونديرا عن الرواية والفن الروائي؟!
اقرأ/ي أيضًا: الترجمة وخلق القيمة في عالم الأدب
تشرع في القراءة وتنتهي من الرواية بسرعة، فتقف أمام مفاجأة أخرى أكبر، ذلك أن كل ما فتن كونديرا، كل المشاهد التي تغنى بها واعتبرها إشارات إلى تفوق رواية مالابارت.. كل هذا كان غائبًا عن الترجمة العربية تمامًا!
هكذا فالشاعر الكبير ترجم بتصرف، ونصب نفسه وصيًا على القراء فنقل لهم ما رأى أنه "الزبدة" وأهمل كل ما اعتقد أنه لا يلزمهم. وإذا كان عبد الصبور لم يشر إطلاقًا إلى المسألة، فإن آخرين كانوا، في تلك الأزمنة، يعلنون ذلك بلا وجل، بل بشيء من الفخر. أحدهم اعترف، في تقديمه لرواية قام بترجمتها، بأنه أقدم على حذف صفحات "لا لزوم لها" تدور حول تساؤلات ميتافيزيقية وشواغل وجودية، وهي أشياء "تهم القارئ الأوروبي فقط"!
مترجمون كثر كانوا يتصرفون مثل رقباء التلفزة العربية، ممن اعتادوا حذف القبل والمشاهد الحميمية من الأفلام المعروضة في سهرات الخميس. واحد من هؤلاء استعاض عن كل المشاهد العاطفية في ترجمته لإحدى الروايات بهذه العبارة التي تكررت في كثير من الصفحات: ".. وعاشا لحظات من البهجة أيما بهجة"!.
ولقد شاعت، منذ عقود، ترجمة عربية عجائبية لكتاب ميكيافيلي "الأمير"، وفيها أقحم المترجم نفسه في الكتاب لدرجة بدا معها وكأنه مشارك في تأليفه، ولم يتورع عن حشر شروحاته وتفسيراته الساذجة وأحكامه الأخلاقية الفجة، ليس في الهوامش بل في المتن. هكذا، مثلًا، وبينما ميكيافيلي يتحدث عن علاقة الأمير بتابعيه ومرؤوسيه وإذا به يقول: "ولعمري هذا يذكرني ببيت الشعر العربي القائل: أعلمه الرماية كل يوم فإذا ما اشتد ساعده رماني"!
شاعت، منذ عقود، ترجمة عربية عجائبية لكتاب ميكيافيلي "الأمير"، وفيها أقحم المترجم نفسه في الكتاب لدرجة بدا معها وكأنه مشارك في تأليفه
تنتمي هذه الأمثلة الفاقعة إلى أزمنة سابقة، واليوم صار الحال أفضل بلا شك. ومع ذلك لا نزال نصادف ترجمات، وإن بوتيرة أقل، تثير الاستهجان.
اقرأ/ي أيضًا: حوار مع 3 مترجمين.. في ضباب الترجمة ويأسها
في ترجمة عربية لرواية الكاتب الفرنسي جان لوكليزيو "ثورات"، ترسل بلاروسيا (روسيا البيضاء) جيشًا جرارًا لمحاصرة الثورة الفرنسية سنة 1792.. للوهلة الأولى يتساءل القارئ عن الحكمة التي قصدها الكاتب من هذه الفانتازيا التاريخية، وعن سر حشره لروسيا البيضاء في حدث لم تشارك فيه حقيقة، بل أنها لم تكن موجودة، لا بكيانها ولا باسمها الراهنين، على ساحة الأحداث العالمية في ذلك الوقت؟!
التفسير بسيط، وهو لا يتعلق بمقاصد الكاتب ولا بأي اتجاه فانتازي في روايته، وإذا ما كان من فنتازيا فهي في الترجمة العربية فقط. وبما أن السيدة المترجمة لم تسمع بوجود شيء اسمه بروسيا (ألمانيا)، فقد ظنت ببساطة أن "بروسيا" هي مجرد تحريف فرنسي لـ "بلاروسيا"، أو لعلها اعتقدت أن المسألة برمتها مجرد فذلكة من الكاتب، فأرادت أن تصوب الخطأ وتعيد الأمور إلى نصابها!
اقرأ/ي أيضًا: