ألترا صوت – فريق التحرير
تستعيد هذه المساحة الأسبوعية، كل أربعاء، ترجماتٍ منسية مختلفة الاتجاهات والمواضيع، كُتب لها أن تؤدي دورًا معينًا في لحظةٍ ما، قبل أن يطوي الزمن صفحتها فيما بعد، لتصير ترجماتٍ "طي النسيان"، بعيدة عن اهتمامات الناشرين العرب. إنها، بجملةٍ أخرى، مساحة يخصصها "ألترا صوت" لرد الاعتبار لهذه الترجمات، عبر لفت انتباه القراء والناشرين العرب إليها، في محاولةٍ لجعلها قيد التداول مجددًا.
في العام الذي أخرج فيه الجوع الأمريكيين إلى الشوارع، صدرت الطبعة الأولى من رواية "خط عرض 42" (1930)، وهي الجزء الأول من ثلاثية "الولايات المتحدة الأمريكية" التي وضعها جون دوس باسوس (1896 – 1970) في العقد الثالث من القرن الفائت، حيث الفقر والجوع الذي يقضم بطون الناس.
لا يُعبِّر جون دوس باسوس في روايته "خط عرض 42" عن بشرٍ يملكون حياة، وإنما مجرد مصير فقط
وصلت الرواية في ذلك العام إلى رفوف متاجر الكتب في المدن الأمريكية، في الوقت الذي كانت فيه عدسات المصورين تسعى خلف الجائعين الهائمين في شوارعها، وبينما كانت جلبة النقاشات وحدَّتها حول أسباب الانهيار الاقتصادي والكساد الذي جاءت به، تتصاعد مخلِّفةً وراءها سيلًا من التفسيرات التي غصَّت بها صفحات الجرائد آنذاك.
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: أدب أمريكا اللاتينية الحديث
لم يكن جون دوس باسوس في حينها بعيدًا عن هذه النقاشات والأسئلة التي تُثيرها، بل إنه ذهب بدوره نحو وضع تفسيراته الخاصة لتلك الأزمة، ولكن من وجهة نظرٍ مختلفة، تبنتها إلى جانبه قلةٌ قليلة من الأمريكيين الذين شاركوه رأيه بأن البحث عن أسباب الانهيار، يجب أن يبدأ من داخل الفرد باتجاه خارجه، وهو ما فعله في "خط عرض 42" التي صدرت نسختها العربية عن "مكتبة مدبولي" في القاهرة عام 1992، ترجمة فيليب عطية.
يرسم باسوس في روايته هذه، صورة بانورامية لأحوال وتحولات المجتمع الأمريكي خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، في محاولةٍ منه لالتقاط جوهر الخلل الذي دفع به نحو الانهيار والانحلال. ويتكئ الكاتب الأمريكي في محاولاته هذه على أساليب جديدة أقرب إلى المونتاج السينمائي، حيث يقوم بين الحين والآخر: "بعملية قطع ليقدِّم لنا (الجريدة السينمائية) (وعين الكاميرا). أما (الجريدة السينمائية) أو شريط الأنباء، فهي التي ترسم لنا بصورة موضوعية لا دخل للخيال فيها الجو العام الذي تتحرك من خلاله الشخصيات"، بحسب فيليب عطية.
ويضيف المترجم المصري في تقديمه للنسخة العربية: "إذا كانت الجريدة السينمائية ترسم لنا الجو العام بصورة موضوعية، فإن المؤلف باعتباره معاصرًا لتلك الأحداث، يُدلي لنا بشهادته أو وجهة نظره الذاتية من خلال عدسة أو (عين الكاميرا)، وهي أشبه ما تكون بمونولوج قصير في صياغة فنية مركبة تميل إلى الغموض ويذكرنا بأسلوب الروائي الإيرلندي جيمس جويس".
وعبر هذا الأسلوب، يرصد جون دوس باسوس حياة خمس شخصياتٍ تقدِّم، من خلال المآلات التي تنتهي إليها، صورة واسعة لأحوال المجتمع الأمريكي خلال تلك المرحلة، وهي: فقيرٌ مسكونٌ بحلم الثورة على النظام السياسي القائم بهدف تغيير واقعه المعيشي البائس، يقابله فقيرٌ آخر لا يدفعه فقره إلى معاداة النظام، وإنما إلى التحايل عليه عبر الخداع والانتهازية لتحقيق أهدافه، إلى جانب فتىً يعمل ميكانيكيًا، وسكرتيرة تقدِّم نموذجًا مكتملًا للفتاة البرجوازية، وامرأة تحلم بالجمال وامتلاك أدواته.
يرسم باسوس في روايته "خط عرض 42"، صورة بانورامية لأحوال وتحولات المجتمع الأمريكي خلال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين
وتتيح هذه الشخصيات لمؤلف "الثروة الكبيرة"، معاينة أشكال التفكك الأُسري الذي شهده المجتمع الأمريكي خلال الأزمة الاقتصادية، إلى جانب التناقضات المختلفة التي يعيشها، والأسباب التي انتهت به إلى الانهيار، مثل زيف الديمقراطية، والسياسات الاقتصادية الرأسمالية، وارتفاع معدلات الطلاق والإجهاض بفعل العوز والفقر والبطالة.
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: رحلة المخاطر
لا يُعبِّر جون دوس باسوس في "خط عرض 42"، وبحسب الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، عن مجتمعٍ يملك بشره في ظل النظام الرأسمالي القائم، أي شكلٍ من أشكال الحياة، وإنما مجرد مصير فقط، خصوصًا وأنه يقدِّم شخصياتٍ: "تولد وتعيش، تتفاعل مع ما حولها، تلقي بظلالها وقد تتلاشى لتصنع لحمة العمل، لكنها لا تستطيع أن تفلت من قسوة قدرها. إنها مجرد شذرات تتحرك على مسرح كبير هو من البداية إلى النهاية بطل العمل الفني"، وفقًا لما جاء في مقدمة الرواية.
اقرأ/ي أيضًا: