ألترا صوت – فريق التحرير
تستعيد هذه المساحة الأسبوعية، كل أربعاء، ترجماتٍ منسية مختلفة الاتجاهات والمواضيع، كُتب لها أن تؤدي دورًا معينًا في لحظةٍ ما، قبل أن يطوي الزمن صفحتها فيما بعد، لتصير ترجماتٍ "طي النسيان"، بعيدة عن اهتمامات الناشرين العرب. إنها، بجملةٍ أخرى، مساحة يخصصها "ألترا صوت" لرد الاعتبار لهذه الترجمات، عبر لفت انتباه القراء والناشرين العرب إليها، في محاولةٍ لجعلها قيد التداول مجددًا.
في حزيران/ يونيو عام 1993، وصل خوان غويتيسولو (1931 – 2017)، إلى العاصمة البوسنية سراييفو لتغطية حرب الصرب على المدينة وحصارهم لها، بوصفه مراسلًا حربيًا لصحيفة "إلباييس" الإسبانية، ومثقفًا حَمَلَه التزامه على المغامرة بحياته من أجل التعريف بمأساة المسلمين البوشناق وتوثيقها.
يضم كتاب "دفتر سراييفو" بين دفتيه، اليوميات التي دوَّنها خوان غويتيسولو خلال زيارته إلى العاصمة البوسنية سراييفو لتغطية حرب الصرب ضد البوشناق
المغامرة التي اعتُبرت الأولى من نوعها آنذاك، جاءت عقب فشل مساعي الكاتب والمستشرق الإسباني في حشد المثقفين الأوروبيين، وحملهم على زيارة المدينة المحاصرة بشكلٍ جماعيٍ يُعبِّر عن تضامنهم مع قضية الشعب البوسني، ورفضهم لجرائم المتطرفين الصرب التي كان غويتيسولو أول مثقفٍ أوروبيٍ يصفها بـ "التطهير العرقي" المنظم ضد مسلمي البوسنة.
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: قلوب الناس المُعذَّبة
زيارة سراييفو وتوثيق معاناة سكانها في ظل الحصار والقصف الصربي الممنهج، بالإضافة إلى الوقوف على أسباب رفض المثقفين الأوروبيين لزيارتها والتضامن مع سكانها، وعموم البوسنيين، دون تبرير ما يرتكبه الصرب بحقهم، هو موضوع كتاب خوان غويتيسولو "دفتر سراييفو"، الذي صدر عن دار "PAIS AGUILAR" بعد شهورٍ قليلة من مغادرته سراييفو.
الكتاب الصادر بنسخته العربية عن "دار الفنك" في العاصمة المغربية الرباط عام 1994، ترجمة طلعت شاهين، يضم بين دفتيه يوميات غويتيسولو التي دوَّنها خلال زيارته إلى سراييفو، حيث دارت رحى الحرب الأشد فظاعةً في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وعبر هذه اليوميات، سعى المستعرب الإسباني إلى رسم مشهدٍ تفصيليٍ للمدينة المحاطة بالموت من جميع جهاتها، تمامًا كما لو أنها، ووفق تعبيره، مصيدة فئرانٍ ضخمة يجب على المرء التنقل فيها بحذرٍ وإلا خسر حياته فجأة.
لا يكتفي غويتيسولو في كتابه بتدوين حصيلة مشاهداته اليومية فقط، بل ويذهب نحو رصد نمط عيش السكان في ظل الحصار وانعدام أدنى مقومات الحياة، بالإضافة إلى إحاطة قرائه بالطرق التي اتبعها السكان للتحايل على القناصين المنتشرين في مختلف أنحاء المدينة، لا سيما أثناء خروجهم للبحث عن الماء والطعام ومواد التدفئة، إلى جانب أساليبهم في التعامل مع القصف اليومي، وأصوات الانفجارات، ومشاهد الجثث المنتشرة في الشوارع، إضافةً إلى فكرة أنهم قد يكونون، غدًا أو بعده، أرقامًا جديدة في قائمة ضحايا التطهير العرقي الذي ينفذه الصرب ضدهم.
وينتفد مؤلف "دفاتر العنف المقدس" أداء قوات الأمم المتحدة التي فشلت في ردع الصرب وحماية البوسنيين، حيث يشير إلى دورها السلبي في تلك الحرب، ويضيء على مشاركة جنودها في حصار سراييفو بأشكال مختلفة غير مباشرة، مثل عجزهم عن حماية المساعدات الإنسانية التي كان الصرب ينهبون جزءًا كبيرًا منها، وغض بصرهم عن تجارة بعض أعضاء المنظمات الإنسانية بتلك بالمساعدات وبيعها في الأسواق السوداء.
ويحمِّل المستعرب الإسباني المجتمع الدولي عامةً، والاتحاد الأوروبي خاصةً، مسؤولية جرائم الصرب في البوسنة، حيث يرى أن الدول الأوروبية كانت قادرة على حماية البوسنيين، ولكنها تقاعست لأسبابٍ مختلفة، منها عدم رغبتها في وجود دولةٍ ذات أغلبية مسلمة بينها، لا سيما فرنسا والمملكة المتحدة، أبرز داعمي المتطرفين الصربيين خلال تلك الحرب وفق رؤيته.
يذكر خوان غويتيسولو في يومياته أيضًا، أنه زار مبنى صحيفة "أوسلوبودينيي" التي دمره الصرب بالكامل، باستثناء الطابق الأرضي، حيث واصل ما تبقى من فريقها العمل طيلة سنوات الحرب من أجل توثيق جرائم الصرب، واحاطة الرأي العام العالمي بانتهاكاتهم الوحشية التي راح ضحيتها آلاف المدنيين البوسنيين.
وإلى جانب مبنى الصحيفة الأشهر في البوسنة، جال الكاتب الإسباني خلال زيارته على عدة مستشفيات ضاقت، بحسب تعبيره، بأعداد القتلى والجرحى الذين كانوا يتوافدون إليها بشكلٍ منتظم، وذلك على وقع قصف الميليشيات الصربية للمدينة، وفي ظل النقص الحاد في أعداد الأطباء والممرضين والمستلزمات الطبية كذلك.
وخلال تجواله في المدينة، التقى خوان بامرأةٍ بوسنية لجأت إلى العاصمة بعد اجتياح الصرب لقريتها، ومن بين ما روته له أن المقاتلون الصرب قاموا بغرز كلاَّب جزارٍ بفم جارها المسلم، ثم أوثقوا يديه وربطوه إلى خلفية سيارة وقاموا بسحله في شوارع القرية، ثم قطعوا رأسه ولعبوا به كرة القدم، قبل أن يلقوا بأشلائه إلى النهر.
رسم خوان غويتيسولو في "دفتر سراييفو"، مشهدًا تفصيليًا للعاصمة البوسنية التي وصفها بأنها مصيدة فئرانٍ ضخمة
وتذكر المرأة أن الأمر ذاته تكرر مع رجل آخر قطعوا ذراعيه وأجبروه على شرب دمائه قبل قطع رأسه. غير أن الحادثة الأفظع التي روتها له هي حشر الصرب لنحو 300 بوسني داخل مسجدٍ قديمٍ وإشعال النار فيه، لتتعالى منه صرخاتهم المرعبة، ممزوجةً برائحة اللحم المحترق.
اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: مدخل إلى ما بعد الحداثة
ويشير خوان في يومياته إلى مساعي الصرب لاغتيال ذاكرة البوسنيين من خلال تدمير معالمهم وحرق آثار البلاد وإبادة مساجدها وغيرها، ومنها مكتبة سراييفو التي حولت قذائف الصرب محتوياتها إلى كتلة نار التهمت أكثر من 5 آلاف مخطوطة عربية وتركية وفارسية، مشبهًا الأمر بما حدث قبل نحو 5 قرون عندما أحرقت المخطوطات العربية في الأندلس بعد طرد المسلمين منها.
اقرأ/ي أيضًا: