لو نظرنا إلى خارطة تشكّل الثقافة في العالم الجديد، عالم ما بعد الاستعمار سنصل ربما إلى مكان يمكن اعتباره الموقع الحقيقي للثقافة، وهو الذي نشأ ولم يزل يوالي نشوءه، بين المهاجرين، اللاجئين، والمقتلعين.. إلخ. وبوصف هؤلاء ليسوا كتلة ثابتة لا ديموغرافيًا ولا جغرافيًا، بل هم دائمو التغير والتجاذب، فإن موقعهم خارج المركز الثابت ثقافيًا وسياسيًا واجتماعيًا.
يتعين على المركز الغربي أن "يواجه تاريخه ما بعد الكولونيالي كما يرويه ذلك الدفق من المهاجرين واللاجئين" كما يعبّر الكاتب الهندي هومي بابا
إن الثقافة الناشئة عن هذا الحراك، حراك الهجرة يمكن أن تحدث تصدعات في المركز الثقافي الغربي، وقد أحدثت ذلك حقًا عبر جوزيف كونراد، ف. س. نايبول، سلمان رشدي، توني موريسون، ونادين غوردايمير، نهضة هارلم.. إلخ، وأن تعيد، وقد أعادت حقًا، صياغة الأسئلة التي وضعها ذلك المركز إمعاناً في الهيمنة: أسئلة الحقوق، أسئلة المدنية، أسئلة الموقع الطبقي والعرقي والجنسي، وأسئلة الحداثة.. وهذه الأخيرة تقع في القلب من التيار ما بعد الكولونيالي، الذي يعتبر هومي بابا، إلى جانب إدوارد سعيد وغاياتري سبيفاك، من أقطابه المؤثرين، ذلك التيار الذي وضع على عاتقه تأريخ وترتيب تلك الثقافة الناشئة.
اقرأ/ي أيضًا: كاميرا الاستعمار
كتابة المهاجرين واللاجئين والمقتلعين... تنطوي على تأثير مزدوج: فهي محملة بتجربتها التاريخية في معاناتهم، ومقتحمة بالوقت ذاته، التوضّع الثابت للمركز، لتشكل، عبر هذا المزيج مساحة هجينة كان يتم، على طول الخط، نفيها. هذه الهجنة هي السمة الأبرز في كتابة هؤلاء.
إن تأريخ العالم الجديد هو تأريخ الهجرة، الشتات، "شعرية" المنفى، ونثر اللاجئين.. في هذه الحدود البينية: بين-أفكار، بين-وضعيات معرفية، بين-قوميات، بين-حضارات.. ينطلق، متشظيًّا، سؤال الثقافة، تلك الحدود التي تتجاذب لتؤسس المكان الأكثر صلاحًا كي يسكن العالم.
فإذا كان العالم الحديث انطلق في حصر سؤال الثقافة في "الـ ـ ما ـ بعد"، ما بعد النسوية، ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية... فإن هذه "الما-بعد" لا تعني التعاقب: "تال للنسوية"، أو الاستقطاب: "ضد الحداثة، ضد النسوية"، بل يعني ذلك القلق المعرفي الذي يقود باتجاه مراجعة تلك الأفكار وإعادة النظر فيها، بما يعني ذلك من توليد أفكار جديدة خارجة عن المركز الذي يدعي النقاء العرقي والمعرفي.. الخ، هذه الأفكار الجديدة التي تجعل الشك بنقاء الثقافة أو العرق قائما بقوة من جهة، وتؤسس ذلك المكان الأكثر صلاحًا كي يسكن العالم من جهة أخرى، تنبثق عن ذلك التجاذب البيني الذي لم يكن من الممكن تحققه إلا عبر الاندفاع الجارف للسان المهاجر والمنفي واللاجئ.. إلخ، فالثقافات "القومية" على سبيل المثال، تنتجها الأقليات القومية المحرومة من الحقوق، وقد شكلت هذه جزءًا فاعلًا وحيويًا من ثقافة وتاريخ المركز.
الموقع الحقيقي للثقافة هو ذلك الفضاء الزماني/المكاني الذي يخلقه اللاجئون، المحرومون، المنفيون، قاطنو أطراف المدن، المقتلعون، المستعمَرون
وبناء عليه، يتعين على المركز الغربي أن "يواجه تاريخه ما بعد الكولونيالي كما يرويه ذلك الدفق من المهاجرين واللاجئين" كما يعبّر الكاتب الهندي هومي بابا، على أن يتم النظر إلى ذلك الروي على أنه أصلي أو محلي منطلق من الهوية القومية ذاتها لذلك المركز.. فنظرة المهاجر واللاجئ والمُبعد مزدوجة كما ذكرنا: ترى، من جهة، ثقافة المركز، ومن جهة أخرى، ثقافتها المحلية أو الأصلية، لذلك فهي تشكل حدًا بينيًا سمح لتوني موريسون، في روايتها "محبوبة" أن تبرز حكاية معاصرة عن تاريخ امرأة، هو في الوقت نفسه سرد للذاكرة التاريخية لتلك المرأة، واقتحام لثقافة مركزية (الولايات المتحدة) تنفي تلك الذاكرة. ليس الهدف من ذلك إقصاء ثقافة المركز لتحل محلها الذاكرة التاريخية المهمشة، بل تفكيك تلك المركزية وإضافة (بمعنى ديريدا لمفهوم الإضافة) ذاكرة المرأة وثقافتها إليها، ومن ثم النظر إلى تلك المساحة الهجينة التي يخلقها ذلك التجادل على أنها المكان الأكثر صلاحًا للعالم، كما تراه موريسون بما تمثله من تاريخ السود والمهاجرين وثقافتهم.
اقرأ/ي أيضًا: كتاب "في النظرية: طبقات، أمم، آداب".. الاستشراق وما بعده
الموقع الحقيقي للثقافة، إذًا، هو ذلك الفضاء الزماني/المكاني الذي يخلقه اللاجئون، المحرومون، المنفيون، قاطنو أطراف المدن، المقتلعون، المستعمَرون، المضطهدون، وباقي المهمشين بسبب العرق أو الجنس أو الطبقة.
اقرأ/ي أيضًا:
"جدل الثقافة".. النقد في مواجهة أسئلة الكولونيالية وما بعدها