بعد عقود من تأميم السياسة، انخرط التونسيون فجأة بعد 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 في الشأن العام بسقف الثورة وشعاراتها وقوانين الساحات ومزاجها في مشهد استثنائي بكلّ المقاييس لم يكن يظهر فيه غير الخنوع والخضوع والصمت المطبق الذي يقتل في الأنفاس ما تبقّى من أمل في الحياة، حتّى كانت "سكرة" بحجم الغيض المكتوم والقحط المكموم والحيف المهموم بسقف عال ومطلب تغيير جذري في مواجهة حمل تركة كارثيّة ومقزّزة ناهيك عن صفاتها الأخرى الكثيرة مما تجود به اللغة.
يرى المجتمع الدولي أن تونس نجحت في الحفاظ على مدنيّة الانتقال الديمقراطي ولم تسقط فيما سقطت فيه بقيّة الثورات في مصر وليبيا واليمن وسوريا
خمس سنوات ونيف والتونسيّون بين تقييمين متضاربين ومتناقضين إلى أبعد الحدود جعلا من حالة الإحباط والأمل المشوب بالحذر الشديد السمة الأبرز فبين انتظارات التونسيين وما تحقّق مسافات من الحيف والفساد والاستبداد، وبين معارك الشعب وجبهات نخبه وجامعييه أنهار وبحار، فالتقييم الأوّل خارجي مصدره المجتمع الدولي، ومفاده أن تونس نجحت في الحفاظ على مدنيّة الانتقال الديمقراطي ولم تسقط فيما سقطت فيه بقيّة الثورات في مصر وليبيا واليمن وسوريا أمّا التقييم الثاني فمصدره أصحاب المصلحة في الثورة أنفسهم ومفاده أنّ المنظومة القديمة قد تراجعت قليلاً إبان هروب المخلوع وعادت بقوّة تحت عناوين وشعارات عدّة وبفضل معارك ووسائل عدّة أيضًا.
من الناحية الشكليّة يحق للتونسيين التفاخر بحالة الليبراليّة السياسيّة التي تأخّرت نسبيًا بعد أن كان يفترض ملازمتها لحالة الليبراليّة الاقتصاديّة السائدة والتي تحوّلت إلى كليبتوقراطيّة بحكم طبيعة النظام نفسه طيلة سنوات من الفساد والاستبداد أمّا في العمق فإنّها أقرب إلى توزيع أدوار للحفاظ على توازنات رعب معيّنة داخليّة وإقليميّة ودوليّة، تستمدّ منها بعض النخب السياسيّة وجودها من أساسه، في ظلّ بقاء نفس عصابة المال القديمة تراوح أماكنها المؤثّرة في المشهد بل الصانعة له في الكثير من الأحيان.
يفترض بالثورة في تونس أن تنتهي إلى تثوير السياسات وتحويل التونسي مركزًا لها، أي أنسنتها في صيغة أخرى، ما سيجعله في مرتبة المواطنة الكاملة من جهة وسينتقل بالدولة من طور الإقصاء للأفراد والجماعات إلى طور الاحتواء الاجتماعي على وجه الخصوص، غير أن هذا لا يبدو الشغل الشاغل للنخب السياسيّة في البلاد لأسباب عدّة أبرزها على الإطلاق هيمنة الجامعيين على المشهد العام وهم الذين لا يقومون بالثورات ولا يفاوضون بسقفها بل يمارسون الوصاية الناعمة على الثورات تحقيقًا لمصالحهم الضيقة وتمييعًا للقضايا المركزيّة وإعادة إنتاج لأنفسهم.
يهيمن الجامعيون في تونس على المشهد العام وهم الذين لا يقومون بالثورات ولا يفاوضون بسقفها بل يمارسون الوصاية الناعمة عليها
صراع الجامعيين في تونس وضع "دولة الثورة" في مأزق حقيقي بين "الرداءة" و"المنظومة القديمة" حتّى صار الحديث عن الثورة في حدّ ذاته مرفوضًا، عبر تحكم هؤلاء في مفاصل الدولة والإعلام وتمكنّهم من صناعة رأي عام انطباعي قابل للتوجيه في نفس اتجاه انتظارات هذه الفئة الباحثة عن صيغة تعاقديّة فيما بينها تضمن مصالحها لا عن صيغة تعاقديّة تضمن المواطنة والكرامة والحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعيّة ومكافحة الفساد وغيرها من المطالب التي رفعتها الثورة.
حجم الشيطنة التي تكال يوميًا للثورة ومحاولة طمسها إلى جانب التلاعب بالرأي العام لتوجيهه نحو معارك أخرى هامشيّة لا ناقة له فيها ولا جمل، باتت ملاحظات لا تستحق ذكاء خارقًا لإدراكها والأسباب وما يحرّك مقترفي هذا الجرم كثيرة منها الحزبي والإيديولوجي ومنها حتّى الذاتي والمالي والجهوي وغيرها، وفي كلّ الأحوال يدفع من ثاروا الثمن بل إن من الثوريين من انخرط بعلم أو بغير علم في الثورة المضادّة كما أن بعض من كانوا في المنظومة القديمة انخرط في صف الثورة لا لكونه ثائرًا بل لكونه قابلًا للتطوّر من منظوره في اتجاه استيعاب اللحظة الجديدة.
لعلّ في طبيعة تركيبة المشهد القائم حاليًا في تونس دليل صارخ على مشروعية خيبة الأمل الكبيرة التي أصابت قطاعات واسعة من التونسيين ولكنّ الثابت بما لا يدع مجالًا للشكّ أنّ السقف المرتفع لهؤلاء والسقف المنخفض للمشتغلين على الشأن العام هو مؤشّر خراب ودليل قطيعة بين فئة قليلة متنفّذة بأشكال مختلفة وسواد أعظم تخنقه الرداءة مع الكليبتوقراطيّة معا رافعين شعارات الديمقراطيّة. وقدّ تدرّب التونسيّون في الخمس سنوات الأخيرة على الاشتباك مع منظومة الفساد والاستبداد وصارت لديهم اليوم التجربة مع القدرة على الفعل وهذا سلاح ذو حدّين في ظلّ عدم نجاح المجتمع السياسي والمجتمع المدني في تأطير الأغلبية الساحقة.
خمس سنوات من الرداءة والتهافت سببها أساسًا المنظومة القديمة المتمترسة اقتصاديًا وإعلاميًا ونخب سياسيّة، لا تزال سجينة الماضي وكهوف الإيديولوجيات المغلقة تتّجه نحو إعادة إحياء حالة الاحتقان الموجودة أساسًا في صدور قطاعات واسعة من الذين يدفعون يوميّا بفعل التناسي والمغالطات إلى البحث عن ذواتهم خارج سقف دولة لم تتصالح معهم إلى اليوم.
اقرأ/ي أيضًا: