بالتأكيد ليس جاك رانسيير فيلسوفًا عاديًا. يمكن القول إنه ليس إشكاليًا عاديًا أيضًا. فهو متفلسف في الفلسفة وإشكالي في إشكاليته. في "زمن المشهد: إلى بدايات الثورة الجمالية"، الصادر أخيرًا عن "منشورات لافابريك" يتابع رانسيير عملًا طويلًا على طريقته. يعود إلى أواخر القرن الثامن عشر، إلى هناك، حيث بدأ الجمال يتبلور كمشهد. لكن سيرة رانسيير، في أي حال، تحيل إلى مجموعة "مشاهد". ورغم اختصاصه في البحث عن أصول الجمال في الفلسفة وفي التاريخ، ليس سهلًا أن تمرّ سيرة رانسيير، من دون عرض وتعليق طويلين على سيرته الإشكالية في السياسة.
ربما يكون واحدًا من "المشاهد" الكثيرة خلافات رانسيير نفسه مع أستاذه ألتوسير. وربما يكون منها خلافه لاحقًا مع جان بودريار. وربما خلاف بودريار مع فوكو. ولكن هذه "المشاهد" انتهت، مثل عراك طويل وصاخب، ينتهي بعدما يحل الهدوء. اسدلت ستارة الثقافة الفرنسية تدريجيًا، بانطفاء أبطالها، وعدم ظهور أي أبطال جدد. رانسيير، ونفترض أنه سيكره هذا الوصف بشدة، إلا أنه برأي كثيري، أحد آخر أبطال هذا "المشهد".
في كتابه الجديد، يتحدث جاك رانسيير عن الثورة في فهم الجمال، أكثر من حديثه عن الثورة في الجمال
بيد أن المشهد الذي يتحدث عنه رانسيير مختلف. في كتابه الجديد، يتحدث عن الثورة في فهم الجمال، أكثر من حديثه عن الثورة في الجمال بحد ذاتها. وهذا ليس جديدًا، فهو في مقابلاته، أصرّ على أن مهمته ليست تحديد الفن، أو تصنيف الفنانين في مقامات. من وجهة نظر فلسفية، يعتبر نفسه مسؤولًا عن تحديد الوظائف السياسية في مجمل العمل الفني. وأبرز هذه الوظائف، هي رفض النسق السائد الذي توزع معايير النجاح والفشل على أساسه.
اقرأ/ي أيضًا: "أفضل الأعداء".. المناظرة التي غيرت شكل النقاشات السياسية في العالم
هكذا، تمثْل أفكاره في كتابه الأخير كما في مقابلاته وتصريحاته السجالية. يعرف أن هذه العملية ليست أمرًا سهلًا، بل تتطلب انقلابًا أحيانًا في الإمكانات وفي مواقع المشاركين. كان هو نفسه، ولأسباب قد لا تبدو منطقية للكثيرين، من أوائل المنقلبين، تحديدًا على أستاذه، ومن خلفه على المؤسسة الأكاديمية بأسرها، التي يراها مؤسسة تعيد البورجوازية انتاج نفسها فيها وعبرها.
في أحد أمثلته، استحضر ذات مرة عملًا سينمائيًا لبنانيًا عن الحرب الأهلية، لخليل جريج وجوانا حاجي توما. لكن على نقيض من اهتمام المثقفين الفرنسيين الكلاسيكي بالقضايا الفرنكوفونية، فإن اليساري الفرنسي معروف باهتمامه بالقضية الفلسطينية، ورفضه المتكرر للاحتلال الإسرائيلي. وقد لا يكون هذا السبب الوحيد لقلة شهرته، بل غالبًا كثرة مشاكله. حتى أثناء بحثه عن ثورة الجمال، ينصب الكمائن لنفسه وينفذ منها. يرفض الأفلاطونية، ويرفض التصنيفات التقليدية والجاهزة. أحيانًا تبدو "انقلاباته" عصية على التفسير، من دون أن تفقد قدرتها على الإبهار على الأقل في مرحلة إعلانها. يساريته أوضح مثال على ذلك، وهي يسارية كما يعرّف عنها هو نفسه، لا تقيم وزنًا للاقتصاد بالقدر الذي تقيمه للسياسة من بين عوامل أخرى. وهذا الرفض لهيمنة الأداة الاقتصادي على الفهم اليساري للعالم، يبرره رانسيير دائمًا برفضه الرضوخ للسيستم المحدد بقواعد وقوانين. هناك برأيه ما هو أعم من ذلك كله: الفضاء السياسي العام، الذي هو مطبخ الهيمنة ومصدر إنتاج سلسلة علاقات. في هذا الفضاء، تلتقي الرأسمالية بما يعارضها، فتتكامل معها، لذلك بالنسبة له، يبدو الاقتصاد كخطاب جامد خطابًا قاصرًا عن الفهم والتحليل.
هذه الاختلافات إلى جانب خلافات أكبر منها، وضعته على ضفة، في ظل وجود جيل كبير من المفكرين اليساريين على ضفة مقابلة. أولهم بالتأكيد، كما أشرنا سابقًا، هو أستاذه لوي ألتوسير، الذي قرأ معه تحديدًا رأس المال. كل ذلك بدأ في 1969، عندما حدثت الثورة الطلابية الشهيرة في فرنسا، ونظّر اليساريون والماركسيون عمومًا لضرورة وجود نزعات أكاديمية في الحراك الطلابي، بينما شق هو طريقًا مختلفًا. ذلك لا يلغي أنه حافظ على الكثير من الأدبيات الماركسية، رغم الخلاف مع الماركسيين. هاجسه من الجمود دفعه دائمًا لأن يرفض المؤسسات التقليدية، كذلك ما يفترضه شجاعةً في مواجهة العفن من دون التفاف.
كتابه الأخير محاولة للخروج من خيبات طويلة، تتلو محاولات أخرى لخيبات مماثلة. خيبة الديموقراطية، فشل الثورات الطلابية، انهيار المشروع الأممي، وأشياء أخرى كثيرة. الخروج من ثيمة البشاعة.
جاك رانسيير معروف برفضه للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين. وقد لا يكون هذا السبب الوحيد لقلة شهرته، بل غالبًا لكثرة مشاكله
رانسيير، ربما بين قلة، لديه الشجاعة ليعبّر عن يساريته بالمقلوب: ترنح الاشتراكية حوّلها إلى سلطة. بتحولها إلى سلطة، هي التي أفسدت القوى التقدمية، تحديدًا في فرنسا، وليس انتصار السِلعة. والآن، الجمال ثيمة من الثيمات التي يسترسل رانسيير في تفسير بداياتها وفق منهجه التخريبي. وهي ثيمة غير مستقلة عن طروحاته الأخرى الكثيرة. يمكننا في هذه الأيام، أن نستعيد إحدى هذه الطروحات عن الهوية الفرنسية. هذه الهوية، ولكي لا تبتلعها البشاعة، يجب أن تتوقف عن اللهاث خلف إمبراطوريات العصر المدفوعة بمسيحانية من خارج سياق التاريخ الفرنسي.
اقرأ/ي أيضًا: ما بعد إسرائيل.. تشريح الذات الصهيونية
في سجالات رانسيير، يجب أن تبقى عناصر الهوية الفرنسية العمالية والاشتراكية حاضرة بداخلها، ويجب أن تحفظ هذه الهوية حيزًا من تاريخها المعاصر ضدّ الكولونيالية، وألا تختزل بتصور غير تعددي، يجعلها جمهورية كاثوليكية تجتمع فيها مجموعات من البيض، ورثوا بدورهم هذه الهويات الجمعية. رغم كل شيء، ليس رانسيير انقلابيًا على نحوٍ تام. يحفظ مكانًا للبدايات، خاصةً الجمالية!
اقرأ/ي أيضًا:
حوار | لينا مرواني: المقاومة تنطلق من الوعي السياسي لا من العيش بعقلية الضحية
حوار | المحبوب عبد السلام.. الجاهلون بالتاريخ محكوم عليهم بتكراره